نشطت الولايات المتحدة الأمريكية في اللعب على الملف الاقتصادي إبان الحرب الباردة، واستخدمته كسلاح لفرض سياستها وهيمنتها على العالم، من دون أن تكترث لحجم الأضرار الجسيمة التي تلحق بالشعوب، فالفكر الغربي يبيح لها أن تتجرد من القيم والأخلاق في سبيل نيل المكتسبات، ونتيجة لهذه السياسة فقد تضرّرت العديد من دول العالم ولا سيما الدول الريعية وكذلك النامية.
وقد نال العراق الشيء الكثير من تلك السياسة، الأمر الذي أضر بالبلد وجعله يعاني الويلات، ففي عام (1990م) فرضت الولايات المتحدة قيودًا اقتصادية كبيرة على العراق ذاق فيها الشعب العراقي المرّ، وجعلته يفقد مئات الآلاف من المواطنين جرّاء المجاعة والأمراض، والنقص الحاد في الأدوية واللقاحات، وأعدّت منظمة (اليونسيف) تقريرًا في عام (1999) بعنوان (الأسوأ من الحرب: الآثار الإنسانية للعقوبات الاقتصادية ) جاء فيه أنّ قرابة (500.000) طفل تُوفّي بسبب الآثار التي خلفتها العقوبات، وتقول دراسة (ريتشارد غارفيلد) في العام ذاته أيضًا والتي صدرت من جامعة كولومبيا (إنها تقدر أنّ العقوبات التي فُرضت على العراق تسبّبت بوفاة أكثر من (1.5) مليون عراقي نتيجة للأضرار الصحية والاقتصادية التي لحقت بالبلد).
وتكرّرت تلك العقوبات في الأعوام الأخيرة ولكن بطريقة أكثر دبلوماسية، وذلك عبر قرار فرضت أمريكا من طريقه وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على عشرات المصارف العراقية الأمر الذي أضرّ كثيرًا في تداول الدولار وارتفاع أسعاره بصورة كبيرة، ووُجّهت في وقت سابق عشرات العقوبات الأمريكية لتطال شخصيات بارزة من المؤسسة العسكرية في الحشد الشعبي.
وتكرّرت مسرحية العقوبات بعد تصويت البرلمان العراقي على قرار يُلزم الحكومة بإخراج القوات الأمريكية من البلاد، فخرج الرئيس الأمريكي حينها (ترامب) وهدّد بفرض عقوبات على العراق، وكذلك قال :(إن قواعدنا في العراق باهضة ولن نغادر حتى يدفعوا لنا ثمنها)، وأكمل قائلاً: (إذا طالب العراق بالرحيل ولم يتمّ على أساس ودّيّ سنفرض عليهم عقوبات لم يروا مثلها).
واليوم قد أثير موضوع العقوبات مجددًّا ولكن بطريقة أكثر استفزازية، إذ قدّم النائب الجمهوريّ (مايك والتز) مشروعًا للكونغرس الأمريكيّ يدعو فيه إلى فرض عقوبات على إحدى السلطات الثلاثة المستقلة في العراق والمتمثلة بمجلس القضاء الأعلى ورئيسه بداعي إنهم يعملون على دعم المصالح الإيرانية، وقد دانت الخارجية العراقية تلك التصريحات، وعدتها تدخلاً سافرًا في الشأن العراقيّ، مؤكّدة أنّ محاولة التأثير على القضاء العراقي هو مساس بأهمّ مقومات كيان الدولة، وأيضًا استنكرت هذه التوجهات من لدن رئيس مجلس النواب العراقي والعديد من الشخصيات السياسية معبرين عن رفضهم للتدخلات الأمريكية بالسياسة العراقية.
وتحاول الولايات المتحدة استخدام العقوبات الاقتصادية كسلاح لفرض هيمنتها على العالم، وقد كان الملف الاقتصادي ورقة ضغط متعدّدة الأقطاب والأهداف، فتارة تستخدمه للحدّ من تعاظم اقتصاد الدول الكبرى-كالقيود التي فُرضت على الشركات الصينية- وكذلك استخدمته في تقويض القوى المناوئة لها -كالعقوبات التي فُرضت على روسيا- وتارة أخرى تستخدمه لإخضاع الدول في حال رفضها لسياستها وجبرها على تقبّل الوصايا الأمريكية كالعقوبات على إيران وفنزويلا والعراق، وأيضًا فعلت هذا الملف لتطبيق أهوائها وميولها، إذ قامت بفرض قيود على غينيا بسبب تجريمها للشذوذ الجنسيّ.
وعلى الرغم من فعالية تلك العقوبات في الضغط على الدول، إلّا أنّ التغيرات السياسية الدولية ساهمت في التقليل من حدّة تلك العقوبات، فالعالم اليوم أصبح يتجه شيئًا فشيئًا نحو سياسة الأقطاب المتعددة، الأمر الذي بات يقوّض إمكانية تطبيق العقوبات الأمريكية على نطاق واسع من العالم، فضلاً عن تزايد قوة كلاًّ من الصين وروسيا ودول أخرى، الأمر الذي جعلها تلعب دورًا فاعلاً في تكوين قطب متعدّد الأطراف يجابه التسلط الأمريكيّ على العالم، لذا فالعالم اليوم يشهد إعادة تشكيل نظام دولي جديد، وعاجلاً أم آجلاً ستصبح مهزلة العقوبات الأمريكية صفحة في كتب التاريخ.