هذه السلسلة اخترناها بعناية وهي تُعنى بإلقاء الضوء على سير بعض العلماء والأعلام وتوثّق بعض مواقفهم وطرائفهم والتي ربما لم تذكر في كتب التراجم أو أنها ذكرت ولكنها أصبحت طي النسيان، والغاية من ذلك الاطّلاع عليها من الجيل الحاضر بغية ربطه بماضيه ورجالاته، وكشف الغمّة عن عقولهم التي أصابها الرين بسبب الثقافات التي جاءت من الخارج والتي زرعت الشكّ في نفوسهم تجاه علمائهم وأعلامهم، وعلى هذا جاءت هذه السلسلة لتكون الخطوة الأولى من أراد أن يطّلع على تاريخ علمائه وحياتهم.
(1)
نصيحة الحاكم
إذا تصفحنا التاريخ القديم و الحديث وجدنا فيه أن أغلب الحكام قد غلبت عليه روح الظلم ورح الاستئثار بالرأي دون استشارة أو دراسة أو تروي بل تأخذهم العزة بالإثم ويعدون أنفسهم العقل المدبر الوحيد الذي لا يطاوله في ذلك أحد من العالمين وهذا ماجر على بعض البلدان الويلات والظلم والاضطهاد بل وحتى الحروب التي لا جدوى منها سوى الدماء، وحتى الحكام الذي يضعون لهم مستشارين في الواقع هم ليسوا مستشارين بقدر ما هم وعاظ للسلاطين يرددون ما يقوله الحاكم دون نصيحة أو رشد والشواهد على ذلك كثيرة جدًا، على أن النصيحة لا تقتصر على الحكام فقط ولكنها ملزمة عليهم لانهم بيدهم مقاليد حكم البلاد والعباد ولكيلا يحدث ظلم هنا أو هناك فلا بد له من ناصح.
لقد ضم لنا التاريخ بين طياته الكثير والكثير من الحوادث والمواقف التي حصلت مع كبار علماء والمفكرين مبينا بذلك عن كيفية تعاملهم معها معطيًا بذلك الدروس البليغة لنا لنستذكرها ونستحضرها ونستلهم منها العبر، وما هذا المقال إلا لتسليط الضوء على جانب من الجوانب المشرقة من حياة واحد من العلماء المفكرين والمصلحين وهو دفاعه عن الأمة وعن المسلمين في العراق بعد أن اجتاحته الزمرة الوهابية الكافرة وهجمت على كربلاء والنجف عام 1802م إذ بعث برسالة إلى أحد الحكام ينصحه فيها ويذكره بما كان وكيف أصبح ، وهي مما عثرت عليه أثناء قراءتي لسِيَر الماضين فأحببت إيرادها هنا لبيان موقف العلماء من أي خطر يداهم الأمة أولاً ولكي يطلع هذا الجيل الذي أخذت المادية منه مأخذها وصار يشكك في رجاله وأعلامه وعلمائه وأبناء جلدته ويتهمهم بالركون إلى العزلة دون أن يتدخلوا في حلّ معضلات المجتمع.
وقد نقلت هذه الرسالة مع بعض المقدّمات التي ذكرها مؤلّف كتاب (العبقات العنبريّة) للأمانة العلمية ولكي تكون فيقول: (ولما ألقتني مراحل الأقلام في هذا المقام ، أعثرني التوفيق على لؤلؤة مكنونة ، وجوهرة مخزونة ، كانت مطروحة في زوايا الخمول ، على أنّها مما يبهر العقول ، وهي رسالة لشيخنا الأكبر ، وعلامة الدّهر ، وآيته العظمى الشيخ جعفر أفاض الله رَوحِه على رُوحِه ، وأعلى على الضراح شامخ ضريحه ، في ردّ الوهابية ، وهي بديعة في مقامها غاية الإبداع ، وقد سلك فيها مسلكا لطيفا ، وعمل بقوله تعالى فيما أمر نبيه موسى (عليه السلام ) مع عدوّه حيث قال له : ((فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيَّنا لعَلَّه يتَذَكَّرُ أوْ يخشْى))، فإنّ الشيخ سلك مسلك اللين والانعطاف، وتطلب الإنصاف ، وتجنّب العنف والاعتساف ، لما فيه من جذب القلوب إلى الحق ، واستجلى بها باللين والصّدق ، حيث أنّه يقول مخاطبا الشيخ عبدالعزيز بن سعود : (يا أخي) في أواخر الفصول وجعل نفسه من طلبة أهل بغداد مكنّيًا بذلك عن كونه من أهل السنة والجماعة ليتوصّل إلى الغرض شيئاً فشيئا.. ويرتقي من مرتبة إلى أخرى على أنّه ليس قصده إلاَّ أن يقلع الوهابي عما هو عليه من تكفير سائر المسلمين شيعة وسنة ...
رسالة الشيخ الكبير في ردّ الوهابية المسمّاة (منهج الرّشاد لمن أراد السداد)
بسم الله الرحمن الرحيم
(الحمد لله الذي تفرّد بالوحدانيّة والقدم، واشتق نور الوجود من ظلمة العدم، وأسّس قواعد الشرع على وفق المصالح والحكم، وفضل أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سائر الأمم ، وأنزل القران فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ، وحذّر عن إتباع الملاذ والشّهوات ، وأمر بالوقوف عند الشبهات ، وأنذر عن متابعة الآباء والأمهات والصلاة والسلام على مَنْ قدّمه على جميع أنبيائه ، وفضّله على كافة أصفيائه ، محمد المختار ، صلى الله عليه وآله وسلم ما أظلم ليل وأضاء نهار .
وبعد : فقد ورد إلى المقصّر مع ربّه التائب إليه من ذنبه ، الطالب من الله السداد ، جعفر أقلّ طلبة بغداد ، كتاب كريم ، مشتمل على كلمات كالدّر النظيم ، ممن لم يزل بالمعروف آمراً ، وعن المنكر ناهياً زاجراً ، الآمر بعبادة المعبود ، الشيخ عبد العزيز بن سعود ، فلما نظرته وتدبّرته وتأمّلته وتصوّرته ، خلوت في زاوية من الدّار ، وتصحفّته تصفّح الإنصاف والاعتبار ، وقلت : متهماً لنفسي بالميل إلى العصبيّة والعناد ، والركون إلى ما عليه الآباء والأجداد ، يا نفس اعرفي قدر دنياك ، واحذري شرّ منْ أغوى أباكِ ، لقد تخليتُ عن نعيم الدنيا بحذافيرها ، وقنعت بقليلها ولو بقرص شعيرها ، وتجنّبت دار الغرّة والوقار ، واخترت العزلة في هذه الدار ، فلو كنت في كبار البلدان من ممالك بني عثمان ، أو في بعض بلدان فارس وإيران لجاءت إليك الدنيا من كلّ جانب ومكان ، ونلت من النعيم ما لم ينله إنسان ، فاحذري أن تكون مع الأعراض عن هذه النعم الفاخرة ، ممن قد خسر الدنيا والآخرة ، فلما شممت منها رائحة التصفية ، رأيت أن نسبة المذاهب لولا الله عندها على التسوية ، وجهتها إلى الكشف عن حقيقة الجواب عن الشبهة المورودة في ذلك الكتاب ، ورأيت أن أشرح في الحال رسالة على وجه الاختصار ، مستمداً من فيض الواحد القهّار ، وسميتها(منهج الرّشاد لمن أراد السداد) .
فأقسم عليك بمن جعلك متبوعًا بعد أن كنت تابعًا، ومطاعًا بعد أن كنت لغيرك مطيعًا سامعًا، وأعزّك بعد ما كنت ذليلاً، وكثّر جمعَكَ بعد ما كان نَزْرًا قليلاً، أنْ تنظر ما رسمته سطرًا سطرًا، وتمعن في تحقيق ما رقمته نظراً وفكرًا، متوحّشا من الناس وقت النظر، متحذرًا من النفس الأمّارة كل الحذر، طالباً من الله كشف الحقيقة، سالكًا في المناظرة واضح الطريقة، فلعلّه يظهر أنّه ليس بيننا نزاع، فنحمد الله على الاتفاق والاجتماع).
وهنا نرى كيف نصح الشيخ رحمه الله الحاكم من أجل الحفاظ على وحدة المسلمين وحقن دمائهم.
أما صاحب الرسالة فهو الشيخ جعفر كاشف الغطاء
واسمه جعفر بن الشيخ خضر بن الشيخ يحيى بن سيف الدين المالكي الجناحي أو (الجناجي) النجفي، المعروف بـ(كاشف الغطاء) ولد الشيخ رحمه الله في سنة 1156 هـ، بمدينة النجف الأشرف، وكان والده الشيخ خضر من علماء وزهاد عصره، إذ انتقل من منطقة الجناحية في الحلة إلى النجف طلبًا للعلم.
كان رحمه الله فقيهاً وأصولياً ومتكلمًاً، ومرجعَ تقليد لـلشيعة وأديباً وشاعراً. لقّب بكاشف الغطاء بعد تأليفه لكتابه الفقهي (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء(
أساتذته
تتلمذ على يد أبرز علماء عصره، منهم:
- السيّد صادق الفحام.
- الشيخ محمد الدورقي .
- الشيخ الفتّوني.
- الوحيد البهبهاني في كربلاء.
- السيّد محمد مهدي بحر العلوم في النجف.
تلامذته
أصبح من المجتهدين والعلماء المشهورين، وكان يحضر حلقة درسه علماء كثيرون وأصبح عدد منهم من الفقهاء والمحققين الكبار الذين سطع نجمهم في سماء العلوم الدينية في العراق وايران نذكر منهم:
- الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر
- الشيخ أسدالله التستري الكاظمي
- الشيخ علي الهزار جريبي
- الشيخ محمد تقي الأصفهاني
- الشيخ محسن الأعسم
- السيد محمد بن أمير معصوم الرضوي
- السيد محمد باقر الأصفهاني
- الشيخ إبراهيم الكلباسي
- السيد صدر الدين العاملي
- موسى وعلي وحسن ومحمد.
مصنفاته
ترك الشيخ الأكبر رحمه الله جملة من المصنفات والرسائل القيمة ومنها:
- الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخباريين
- كشف الغطاء عن خفيات مبهمات الشريعة الغرّاء، وهو من أشهر كتبه وسميت العائلة باسمه
- بغية الطالب في معرفة المفروض والواجب.
- التحقيق والتنفير فيما يتعلق بالمقادير.
- الرسالة الصومية.
- مشكاة المصابيح، شرح للمنظومة الفقهية مشكاة الهداية، تأليف السيد محمد مهدي بحرالعلوم.
- رسالة في العبادات المالية.
- غاية المراد في أحكام الجهاد.
- نهج الرشاد لمن أراد السداد.
وفاته
رحل عن دنيانا في سنة 1228هـ ودفن في النجف الأشرف، وصار قبره اليوم مزارًا ومدرسة ومكتبة مشهورة في العالم الإسلامي.
أما مؤلّف كتاب العبقات العنبرية، فهو الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء رحمه الله.