البحث المتقدم

البحث المتقدم

العراق بين النفوذ وصناديق الاقتراع: عقدان من ديمقراطية مؤجَّلة

1 تقييم المقال

بعد مرور أكثر من عقدين على سقوط النظام السابق، يقف العراق اليوم أمام انتخابات وُصفت بأنها الأشد حساسية منذ عام 2003، الحلم الديمقراطي الذي بشّر به الدستور الجديد عام 2005 يتراجع أمام واقع مضطرب، تتشابك فيه مصالح القوى المحلية والإقليمية، لتبدو العملية السياسية أشبه برقعة شطرنج يتناوب اللاعبون على تحريك بيادقها، فيما يظل المواطن مجرد رقم في سجلات الاقتراع.

نفوذ موازٍ يتجاوز الدولة
لم تعد مؤسسات الدولة الرسمية صاحبة اليد الطولى في إدارة السلطة، إذ برزت شبكات نفوذ حزبية وأمنية واقتصادية وإعلامية تتحكم بالمشهد من خلف الستار، وهذه الشبكات ليست مؤامرة خفية، بل نتاج فراغات دستورية وهشاشة مؤسسات جعلت الدولة ميدانًا مفتوحًا لتقاطع الولاءات والسلاح والمال.

ديمقراطية على الورق… وواقع مأزوم
ورغم وضوح النصوص الدستورية في التداول السلمي للسلطة، أفرزت التجربة العراقية مشكلات مزمنة، أبرزها:

  • المحاصصة الطائفية والحزبية: تقاسم المناصب العليا على أسس مذهبية وقومية جعل الحكومات رهينة للتوازنات لا للكفاءة، وعمّق الانقسام المجتمعي.
  • الأحزاب المسلّحة والاقتصاد الموازي: قوى سياسية احتفظت بأجنحة عسكرية وشبكات تمويل مستقلة، ما مكّنها من فرض إرادتها خارج سلطة الدولة وتحويل موارد النفط والمنافذ الحدودية إلى أدوات نفوذ غير خاضعة للرقابة.
  • أجهزة أمنية متعددة الولاءات: من الاقتتال الطائفي (2006–2008) إلى معارك داعش (2014)، برز ضعف السيطرة المركزية وتداخل الصلاحيات بين الجيش والحشد الشعبي وجهاز مكافحة الإرهاب.
  • قضاء وإعلام تحت الضغط: الاتهامات بتسييس القضاء تكررت في نزاعات انتخابية، فيما تحولت بعض وسائل الإعلام إلى منصات حزبية موجِّهة للرأي العام.

شواهد من عقدين مضطربين

  • خلال الاقتتال الطائفي (2006–2008)، سيطرت الميليشيات على مدن وأحياء كاملة، فارضة إرادتها على قرارات الدولة.
  • في احتجاجات تشرين 2019، خرج مئات الآلاف مطالبين بإصلاحات جذرية، فقوبلوا برد أمني قاسٍ واغتيالات استهدفت ناشطين بارزين.
  • أما تشكيل الحكومات، فقد تحوّل إلى أزمة متكررة، إذ استغرقت المفاوضات في أعوام 2010 و2018 و2021 أشهراً طويلة بسبب صراع القوى على المناصب والثروات.

عقدة الداخل وضغوط الخارج
لم تتوقف تعقيدات المشهد عند الانقسامات الداخلية، بل تحوّل العراق إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي. فإيران تدعم قوى مسلّحة متحالفة معها، والولايات المتحدة تحافظ على وجود عسكري وسياسي مؤثر، فيما تتابع تركيا ودول الخليج التطورات عبر بوابة الاقتصاد والحدود. ونتيجة لذلك، بات أي إصلاح داخلي رهينة حسابات الخارج بقدر ما هو مرهون بالإرادة المحلية.

مجتمع مأزوم وثقة متآكلة
في المقاهي والأسواق، يتردد السؤال ذاته: من يحكم العراق حقاً؟ بلد الرافدين، الذي صاغ أولى الشرائع البشرية، يقف عاجزًا عن فرض قانون يعلو على سلاح الفصائل ومال النخب. ومع تزايد شلل المؤسسات التشريعية وتعطّل قوانين أساسية مثل قانون النفط والغاز، تتراجع ثقة المواطنين بالعملية الديمقراطية، وينعكس ذلك في انخفاض نسب المشاركة بالانتخابات.

انتخابات 2025… مفترق طرق
الانتخابات المقبلة تمثل اختبارًا حاسمًا لإرادة الدولة والمجتمع. استطلاعات محلية تشير إلى ارتفاع نوايا المقاطعة، ما يهدد شرعية العملية برمتها. اللحظة أشبه بمفترق طرق: إما بداية لتفكيك شبكات النفوذ، أو محطة جديدة في مسلسل الانتظار الطويل.

طريق الإصلاح
لعل أبرز المقترحات لكسر الحلقة المفرغة تتمثل في:

  1. إصلاح انتخابي جاد يفتح المجال أمام المستقلين ويحد من هيمنة الأحزاب الكبيرة.
  2. حصر السلاح بيد الدولة ضمن جدول زمني واضح وتحت رقابة برلمانية.
  3. تعزيز الشفافية في إدارة عائدات النفط والمنافذ الحدودية.
  4. تمكين المجتمع المدني والإعلام المستقل بوصفهما أدوات رقابة دائمة.

بعد عقدين من التجربة السياسية، يتضح أن أزمة العراق ليست أزمة نصوص دستورية، بل أزمة إرادة سياسية، ومع اقتراب انتخابات 2025، يبقى السؤال المصيري مفتوحًا: هل سيتمكن العراقيون من تحويل الدستور من نص معلّق إلى عقد اجتماعي حيّ يحكم الجميع؟

 

نعم
هل اعجبك المقال