تُعدّ المخدرات من أخطر الآفات التي تهدّد المجتمعات البشرية في العصر الحديث، فهي ليست مجرد مواد تسلب العقل وتُضعف الجسد، بل هي أدوات فعالة لهدم الأسس الأخلاقية والاجتماعية التي تقوم عليها الأمم، وتسبب المخدرات إدمانًا مدمّرًا يجرّد الإنسان من حريته ويُقيّده بقيود نفسية وجسدية تُحوّل حياته إلى دوامة من المعاناة والأزمات، وهذا الإدمان لا يقتصر على الشخص المتعاطي فقط، بل يمتد ليشمل أسرته وأصدقاءه، والمجتمع، ويصبح الفرد المدمن فاقدًا لقدرات الفرد الإنتاجية ويتحوّل إلى عالة على المجتمع، الأمر الذي سيسهم في زيادة الفقر والبطالة، وكذلك تعزيز انتشار الجرائم، والانحرافات الأخلاقية.
وفي ظلّ هذه التحديات الخطيرة، أصبح لزامًا أن تتكاتف الجهود للتصدي لآفة المخدرات، بدءًا من التوعية والتثقيف بآثارها ومخاطرها وصولاً إلى التشريعات والقوانين الرادعة لها، ومن هنا يأتي دور التوجيهات الدينية التي تلعب دورًا محوريًا في توجيه المجتمع نحو السلوك القويم ومكافحة الظواهر السلبية، بما في ذلك المخدرات، وفي هذا الصدد نشر موقع السيّد السيستاني (دام ظله) مجموعة من الإجابات عن أسئلة وردت له من مؤسسة المعرفة للثقافة، وقد تناولت هذه الأسئلة قضية المخدرات بصورة محددة، وقد أكدت تلك الإجابات على حرمتها وضرورة مكافحتها من جميع الجوانب، وجاءت هذه الإجابات كرسالة تأكيدية من المرجعية الدينية لإزالة كافة الشبهات حول هذا الموضوع الخطير.
وقد تضمنت الأجوبة رسائل عدة أهمها:
- المسؤولية الفردية والاجتماعية:
تحميل الفرد والمجتمع مسؤولية مكافحة هذه الآفة الخطيرة، عبر نهي تجّار المخدرات ومهربيها عن الاستمرار في مزاولة هذه الأفعال المشينة، ويمتد الأمر إلى مقاطعتهم إذا استلزم بذلك نهيهم عنها، وأيضًا أجاب السيّد بضرورة إبلاغ السلطات المعنية عن الذين يمارسون عمليات التهريب والتجارة، و أشار إلى أن كل من يتسبب في تعاطي الآخرين للمخدرات أو يشجع على ذلك، يتحمل إثمًا عظيمًا، ويتوجب عليه تعويض الأضرار الناتجة عن ذلك، بذلك يكون كل فرد في المجتمع مسؤولة عن التصدي لهذه الآفة الخطيرة، الأمر الذي يعزز من خلق بيئة اجتماعية رافضة للمخدرات.
تحريم التجارة والتهريب:
جاء البيان ليحرم بشكل قاطع جميع أشكال التجارة والتهريب للمخدرات، مؤكّدًا على أنّ الأموال المكتسبة من هذه الأنشطة تعدّ (سحتًا) ويحرم التصرّف بها، وهذا التحريم يعدّ توضيحًا كافيًا لنفي شرعية بعض الأعمال التي تصبّ في الإعانة على انتشار المخدرات، إذ إنّ البعض التجار يقنع الآخرين بأنّ الحرمة في التعاطي لا في النقل والترويج.
تفعيل دور الأجهزة الأمنية والقضائية:
أعطى البيان أهمية كبيرة لدور الأجهزة الأمنية والقضائية في مكافحة المخدرات، محذرًا من تهاون المسؤولين في أداء مهامهم، وقد أشار إلى حرمة تقاضي الراتب والمخصّصات في حال التهاون، ومن لم يكن على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه أن يستقيل أو ينتقل إلى عمل آخر، وإن أي تهاون في هذا الصدد يعدّ إثمًا مضاعفًا، كما أكّد البيان على ضرورة النزاهة والجدية في تطبيق القانون، وضمان عدم التورط في الفساد؛ لأنّ ذلك يقوض جهود مكافحة المخدرات ويزيد من انتشارها.
الاستعانة بالخبرات الدولية
أوضح البيان أيضًا بضرورة الاستعانة بالخبرات الإقليمية والدولية في إيجاد طرق صحيحة للتعامل مع المدمنين وعدم الاقتصار على السجن والعقوبات، وبذلك تشير المرجعية الدينية على ضرورة الانفتاح على أحدث الطرق العالمية لمعالجة هذه الآفة الخطيرة، مبتعدين بذلك عن الطرق الكلاسيكية المتبعة والتي تحاسب المخطئ فقط دون تقوميه.
المسؤولية الملاكات التعليمية والمؤسسات الدينية:
تحميل أساتذة الجامعات والمدرسين والخطباء والمبلغين والإعلاميين مسؤولية توعية وتثقيف الشباب والمراهقين بالآثار الخطيرة لآفة المخدرات، إذ تمثل تلك الشرائح المجتمعية أهمية بالغة كونها تعدّ نخبة المجتمع وهي من أهم وسائل تلقي المعرفة للأجيال الناشئة.
حماية العائلة
الأب والأم بلا شكّ هم من أولى الناس بأبنائهم ولكن عندما يكون أحد الأبوين مصدرًا للخطر نتيجة إدمانه، فهنا لابد من اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تصبّ في سلامة الأسرة والأبناء، ولابدّ من معالجة الوالد المدمن وحثّه على العلاج والذهاب للمصحات، والاستعانة بالأقرباء للتأثير، وإن تطلب الأمر إبعاد الأولاد عن أحد الوالدين كان به، لأن مصلحة الأبناء والاهتمام بتربيتهم تربية صالحة تعد من أهم الأولويات.
فتح باب التوبة والرجع
البعض ربما وجد نفسه منغمسًا في وحل هذه الآفة الخطيرة وقد أدرك الآن خطرها وعواقبًا، فإنّ باب التوبة مفتوح له إن كان عازمًا على تركها، وتوجّه إلى المراكز العلاج واستمر به إلى آخر شوط، وفتح باب الأمل والعودة للمدمنين سوف يمنحهم الثقة الكافية للعودة إلى حياتهم الطبيعية بعيدا عن المخدرات.
وقد لاقت تلك الإجابات صدى مجتمعيًا وإعلاميًا كبيرين، وخاصّة بعد تزامنها مع الزيارة الأربعينية، إذ قامت العديد من المواكب والهيئات الحسينية برفع لافتات وبوسترات تتضمن تلك الإجابات، وأيضًا صرحت لجنة مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية النيابية بأن تلك الإجابات تبين حرص سماحته الشديد والمؤسسة الدينية كاملة على مواجهة هذه الظاهرة الخطرة من طريق بيان الأحكام الشرعية وما لذلك من أثر كبير في توعية المجتمع وتحديد واجباته الشرعية تجاه هذه الآفة الخطرة، وقد تأملنا بدقة مضامين إجابات سماحته ووجدناها ترسم خريطة طريق للسلطات كافة التشريعية والتنفيذية والقضائية في كيفية مواجهة هذه الظاهرة التي باتت تنخر جسد الدولة والمجتمع وتدعوهم لمضاعفة الجهود ومنح ملف مكافحة المخدرات الأولوية في سياسات الدولة، وأيضًا وعدت اللجنة سماحته بأنها ستدرس تلك الإجابات القيمة التي تحمل مضامين الشريعة السمحاء وتترجمها لواقع ملموس عبر القنوات التشريعية والرقابية، وأيضًا أصدرت وزارة الداخلية بيانًا شكرت فيه مقام المرجعية الشريفة وبينت أنّ ما وجه به سماحة المرجع الأعلى يعدّ دافعًا لإكمال مسيرة مكافحة المخدرات وبذل التضحيات لإنقاذ المجتمع العراقي من المخدرات.
وكما عهدنا من المرجعية الدينية الشريفة حضورها في كافة الميادين لتقديم الدعم والنصح والإرشاد، فبالأمس لمسنا حكمتها في درء عصابات داعش الإرهابي، واليوم نجدها حاضرة في توجيه المجتمع والجهات المعنية لتجاوز إحدى أزمات العصر الحديث المتمثلة في آفة المخدرات، ولم نرَها يومًا قد ادخرت جهدًا في سبيل الدفاع عن حقوق الناس وكرامتهم، ويومًا بعد يوم نرى تجليات لكياستها وحكمتها وإنها بالفعل تستحق أن تكون القائد الروحي الذي يتلف حولها الجميع لتقودنا نحو برّ الأمان.