البحث المتقدم

البحث المتقدم

لماذا التوثيق؟

43 تقييم المقال

 

هذا سؤال بسيطٌ في تركيبه، كبيرٌ في محتواه، فلو تكلّمت بكلمة أو بحديث أو بحادثة تاريخية ما حديثة كانت أم قديمة فهناك من يطالبك بتوثيق ما تكلمت به، ولذلك يرد هذا السؤال لماذا التوثيق وما الهدف منه؟ وللإجابة عليه لا بدّ من بعض المقدّمات وهي:

تعريف التوثيق لغةً:

جاء في لسان العرب لابن المنظور في مادة وثق (الوَثِيقُ الشيء المُحْكم والجمع وِثاقٌ)([1]).

وجاء في القاموس المحيط للفيروزآبادي في مادة وثق ( وَثِقَ به، كَورِثَ، ثِقَةً ومَوْثِقاً ائْتَمَنَهُ، والوَثيقُ المُحْكَمُ)([2]) .

ولو أمعنت النظر في التعريفين اللغويين السابقين وجدتهما يعطيان المعنى نفسه بأنّ الوَثاقَة هي الإحكام، ومنه جاء ربط الحبل، فقال الله سبحانه في كتابه العزيز (وَلا يُوثِقُ وَثَاقَه أَحدٌ)([3]).

أمّا التوثيق في الاصطلاح فهو (هو إثبات صحة الشيء أو التثبّت من صحة النصّ، وهو مشتق من الثقة ومنه: وثيقة الزواج، وتوثيق العقود أي إثبات صحّتها).

أمّا مفهوم التوثيق في البحوث العلمية يقصد به (ربط كلّ الأفكار والقضايا والمسائل الواردة بها بالمصادر والمراجع التي أُخذت منها، وتدعيمها بالاقتباسات والشواهد المأخوذة من تلك المصادر والمراجع)([4]).

وبعد هذه المقدّمة البسيطة عن مفهوم التوثيق لغةً واصطلاحًا نأتي إلى الجواب على السؤال السابق (لماذا التوثيق؟)

يقول السيّد محمّد حسين الجلاليّ عن التوثيق (خصّ المسلمون القرآنَ الكريم بالعناية كتابةً ورسمًا ، قراءةً وتفسيرًا ، وتجويدًا وترتيلاً ، منذ عصر الرّسالة وحتى اليوم ، جيلاً بعد جيل ، وفي كلّ عصر ومصر ، ولا غرو فهو الوحي المنزل على النبي المرسل المعصوم عن الخطأ والزلل ، ولا يمكن أن يقاس بالقرآن الكريم أي كتاب من كتب البشر ، ولا يصح أن يقال بأن أي كتاب صحيح على الإطلاق - بعد كتاب الله - مهما كان المؤلَّف عظيمًا ، فإنّ الإنسان محل السهو والنسيان ، ولا يستلزم إيمان المؤلّف بصحة كتابه أن يقارن بالوحي نعوذ باللَّه ، بل لا بدّ أن يخضع كل كتاب أو حديث لأصول البحث والتحقيق الموضوعيّة .

ومذهب أهل البيت عليهم السّلام أنّه ليس هناك كتاب صحيح على الإطلاق، بل الكتاب يمثّل آراء صاحبه، وليس هناك إنسان على وجه الأرض معصوما سوى من عصمه الله.

فأيّ كتاب في الحديث لا بدّ وأن يميّز فيه الحديث الصحيح من الضعيف، والمسند من المرسل، ويؤخذ فيه بما تدل الأصول السليمة على الأخذ به وما عارض منه كتاب الله يضرب به عرض الجدار، وليس ذلك إنكارا لفضل كبار الحفاظ، بل لكلّ ذي فضل فضله حيث جمعوا ما وقفوا عليه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، والخطأ في الفهم والنقل جائز على البشر.

وكلَّما قرب المسلمون من عهد الرّسالة كان التمييز لهم أسهل لقربهم من منابع الشريعة المطهّرة، وكلَّما بعد العهد واتسعت الدولة الإسلاميّة ، واعتنقت عناصر جديدة الإسلام واختلطت الحضارات واللغات ظهرت الحاجة إلى تمييز الأحاديث أكثر ، ومن هنا أكَّدت روايات أهل البيت عليهم السّلام على ضبط الحديث بأوثق الطرق ، وقد تواتر عن الرسول القائد صلَّى الله عليه وآله وسلم قوله : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار»، وهذا الحديث يدل على حصول الكذب على الرسول في عصره ، فكيف فيما بعده ، مع كثرة الخلافات؟)([5])

ومما تقدّم نعرف أن لا وجود لكتاب على الإطلاق خال من التحريف والتزييف والزيادة وبما، وإن كان السيّد يتحدث عن الحديث النبوي الشريف والروايات الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم إلا أننا نجعل من ذلك مثالاً لما يحدث في جميع العلوم والأحداث التي تمر عليها السنون وتكون عرضةً للتحريف والتزييف، وبما أن هذه المشكلة أزلية وما زالت، فهنا تأتي أهمية التوثيق والتثبت فيما ينقل، إذ إن التزييف حاصل في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو بينهم والوحي ما زال مستمرًا فكيف إذا تباعد الزمن بينه وبينه؟

وعلى هذا نصل إلى جواب وافٍ للسؤال (لماذا التوثيق؟) وذلك للحفاظ على العلوم والتاريخ والحديث وغيرها من المعارف من التلاعب والتحريف والتزييف وأن تصل إلى الأجيال اللاحقة صافية نقية لا درن ولا شية فيها.

 

 

([1]) لسان العرب مادة وثق.

([2]) القاموس المحيط مادة وثق.

([3]) الفجر (26).

([4]) المكتبات والمعلومات والتوثيق، أسس علمية حديثة ومدخل منهجي عربي: سعد محمد الهجرسي وسيد حسب الله : ٢١٦.

([5]) فهرس التراث: 1/23.

نعم
هل اعجبك المقال