منذ مدّة ليست بالقليلة تردّدت على أفواه العامة مفردة (التقليد) وصار فيها الجذب والشدّ والأخذ والردّ، بين مَن يدافع عنها كونها مصطلحًا دينيًا شرعيًا واجبَ التنفيذ، وبين من يراها لفظة يُراد بها سوق الناس عبر الدين إلى تنفيذ مآرب أخرى أو بعبارة أخرى لفظة تدل على العبودية- من وجهة نظر بعضهم- فمَن تمسّك بها فهو الإنسان الذي يرى أن (التقليد) ضروري لمعرفة الأحكام الشرعية وأخذها من المختصّ، ومن تركها فهو الإنسان الذي يرى نفسه ليس بحاجة لمعرفة الأحكام أو بالأحرى يرى نفسه عارفًا بها دون الرجوع إلى المختصّ، والمشكلة ما زالت قائمة حتى يوم الناس هذا.
ما نرمي إليه في هذه السطور القليلة هو بيان مفهوم مصطلح (التقليد) وماذا يعني ولماذا اختيرت هذه اللفظة عن غيرها، وأين تكمن المشكلة في فهمها؟ ولمعرفة ذلك لابد من معرفة جذر المصطلح وماذا يعني في اللغة والاصطلاح
فالتقليد في اللغة مشتق من الجذر (قلد) وهو يعني:
(تقلدت السيف والأمر ونحوه: ألزمته نفسي، وقلدنيه فلان أي ألزمنيه وجعله في عنقي) وهو قول الخليل الفراهيدي في كتابه العين.
و(قلدته السيف: ألقيت حمالته في عنقه فتقلّده.... ومن المجاز: قلّد العمل فتقلّده. وألقيت إليه مقاليد الأمور) وهو قول الزمخشري في أساس البلاغة.
وقيل: (القلادَةُ: التي في العنق. وقَلَّدْتُ المرأة فَتَقَلَّدَتْ) وهو قول الجوهري في الصحاح.
ولو تأملت التعريفات السابقة لما وجدت فيها ما له علاقة بالدين أو ما له صلة به، فكل ما ورد آنفًا إنما يدل على جعل الشيء في العنق، بمعنى تعليق الشيء في العنق، ومنه جاءت (القلادة) التي توضع في عنق الفتاة.
أما التقليد في الاصطلاح الفقهي: (هو العمل مطابقاً لفتوى الفقيه الجامع للشرائط وإن لم تستند اليها حين العمل، فتفعل ما انتهى رأيه الى فعله، وتترك ما انتهى رأيه الى تركه، من دون تمحيص منك، فكأنك وضعت عملك في رقبته كالقلادة، محمّلاً إياه مسؤولية عملك أمام الله)
ولو أمعنت النظر في التعريف الاصطلاحي تجد هذه العبارة واضحة وجلية (فكأنك وضعت عملك في رقبته كالقلادة).
ومن هنا جاء المثل العراقي المعروف (ذبها برقبة عالم واطلع منها سالم) فهذا المثل لم يأت جزافًا أبدًا بل هو لبّ التقليد أنك تجعل عملك مطابقًا لرأي العالم وتعلِّقه في رقبته وأنت تخرج منه بريء الذّمة.
إذن فمفردة (التقليد) في الفقه تعني أن تجعل عملك وحلالك وحرامك في رقبة الفقيه بعد الأخذ برأيه، فإن كان مصيبًا أو غير مصيب في رأيه فهو من يتحمل ذلك يوم القيامة عنك وأنت بريء الذمّة.
إنّ الإشكالية المطروحة على المصطلح اليوم ليست في معناه الحقيقي وإنما في الفهم الخاطئ للمعنى، فالشخص الواعي يعرف أن كلمة (التقليد) هي الأخذ برأي المختصّ، أما الساذج فهو يعتقد أن كلمة (التقليد) تعني العمل بمثل ما يعمل به الفقيه.
والسؤال هنا من أين جاء هذا المعنى عند الساذج؟
الجواب: في مجتمعنا العراقي تحديدًا عندما نريد أن نقول (زيد يفعل كما يفعل عمرو) فإننا نستعمل مفردة (تقليد) فنقول: (زيد يقلد عمرو في مشيته) وبتعبيرنا العراقي (هذا يقلد فلان من يمشي لو من ياكل لو من يشرب لو من يلبس ووو) ونحن نقصد من مفردة (يقلد) هي أن زيدًا يتقمّص أو يمثّل أو يشابه فعله فعل عمرو.
وحتى المعنى الشعبي في بعض الأحيان يخرج من معناه إلى معنى آخر هو الاستهزاء-أو ما يسمى اليوم بالتنمر- فنقول (فلان يقلد عليك) أي يستهزئ بك أو بمشيتك أو بطريقة كلامك أو ما شابه ذلك.
ولأنّ المصطلح قد خرج من معناه الأصلي إلى معانٍ أخرى أفرزتها اللغة الدارجة فصار معنى (التقليد) في الأحكام الشرعية عند الساذج هو بهذه الطريقة- أي أنه يقلد المرجع في أكله وشربه وكلامه ومشيه ولباسه وكل شيء يتعلق به- والحقيقة هي غير ذلك، لذا ترى شريحة كبيرة ولا سيما الشباب عندما تسأله لماذا لا تقلد يرد عليك (ليش أقلد فلان؟ أني ما أقلد، وليش أربط حياتي بالمرجع) فلو تأملنا جيدًا في كلامه نجده على حقّ، نعم على حقّ تمامًا، لماذا؟ لأنّه فَهِمَ (التقليد) بحسب المعنى المتداول بين الناس على أنه السير والتشبه بفلان وتمثيله، فالمعنى الشعبي هو الراسخ لدى المجتمع وليس المعنى الأصلي للمصطلح.
قد يرد سؤال يقول: لماذا مفردة التقليد بالذات لماذا لا يستعمل مصطلح (الإناطة) على اعتبار أنك تنيط العمل في رقبة العالم، أو استعمال مصطلح (المشورة) بأنك تستشير الفقيه في مسألة ما؟ الجواب: إن مصطلح (الإناطة) غير متداول حتى عند أهل اللغة لأنه قليل الاستعمال وإن كان هو من المصطلحات التي تعطي معنى (التقليد) ذاته وهو أقرب لجعل العمل في رقبة الشخص أكثر من القلادة، إلا أن الواضح من ذلك أن استعمال مفردة (التقليد) لأنها مفردة محببة وقريبة من ذهن الناس لأنها مرتبطة بشيء مادي ومتداول بينهم وهو (القلادة).
أما (المشورة) فالمشورة تعني أنك تأخذ برأي شخص ما أو متخصص في مسألة محيرة لك ولا تعني أنك تأخذ برأيه في كل أعمالك، وهذا المعنى خلاف ما أراده الشارع لأنه لا يريدك أن تأخذ الحكم الذي تريد وتترك ما سواه، بل أن تجعل كل أعمالك الدينية مأخوذة من المختصّ لأنك غير مختصّ بذلك وليس لديك الإلمام بكل الأحكام الشرعية، كما تأخذ برأي الطبيب أو المهندس أو المحامي أو ما ماثل ذلك، فأن الأخذ برأي أحدهم هو تقليد له لأنك جعلت عملك في رقبته.
ثمّة سؤال آخر من المسؤول عن غياب المعنى الأصلي وشيوع المعنى الدارج؟
الجواب: إنّ غياب مثل هذا المعنى الخطير يقع على أصحاب المنابر ورجال الدين، كيف؟ لأنهم لم يولوا اهتمامًا كبيرًا ولم يخصّصوا من وقت محاضراتهم جزءًا لشرح هذه المفردة بالذات عن معناها الأصلي والمعنى القار في أذهان الناس، إلّا ما ندر عند بعض الخطباء هنا وهناك، وهذا لا يغني ولا يسمن.
رُبّ سائل يسأل لماذا لا يبحث المكلّف عن هذه المسائل لا سيما وأن الوسائل متاحة أمامه وهي تعج وتضج بهذه الموضوعات؟ الجواب: الجميع يعرف أن اليوم المجتمع يعيش حالة من النفور الديني بسبب الغزو الفكري الغربي الذي يدعو إلى التحرر من سلطة الدين، لذلك لن تجد من يكلّف نفسه بالبحث عن هذا المصطلح ماذا يعني؟ وما يراد به؟ فضلاً عن أن الغزو الفكري أصبح من الداخل بنشر فكرة (التقليد باطل) وهي فكرة تستهوي الشباب لأنها تلبي ما بداخله من نفور.
نعم قد تجد نفورًا من الدين أو على الأقل من الأحكام الشرعية والصلاة والصيام وما إلى ذلك عند شبابنا اليوم، لكنهم ملتزمون بحضور المجالس الحسينية وهذا شيء جيد فمن هنا على الخطيب أن يوجّه ويوضّح ويشرح ويبيّن هذه المفاهيم للشباب لكي يترسخ لديهم المعنى الأصلي المراد من (التقليد) وأهميته، فضلاً عن ضرب الأمثلة الواقعية لهم لكي يكون أقرب للفهم عندهم.