لا يمر يوم الا وأقرأ مقالات او تعليقات على وسائل التواصل أو حتى مقابلات صحفية يجلد فيها العراقيون أنفسهم وشعبهم وثقافتهم الى درجة جعلته إدمان ممتع ومريح لهم. فهذا يجلد العراقيين لأنهم قطيع (كما يصفهم) يتبعون كل ناعق، وذاك يجلد العراقيين لأنهم أهل شقاق ونفاق منذ أقدم العصور! ويكاد لا يخلو مجلس حوار او نقاش من خاتمة مفادها (العراقيين ما تصير لهم چاره)! وكم يستمتع العراقيون بالقول (زوراً) أنهم مزدوجو الشخصية، وأنهم شعب متخلف لا يستحق الحياة!! فما هو السبب وراء هذا الادمان لجلد الذات يا ترى؟
أبتداءً فأن ثقافة جلد الذات فعلاً (وليس قولاً فقط) موغلة بالقدم تاريخياً. فقد مارسها الرومان قديماً لتطهير أنفسهم، بخاصة النساء اللائي لا يلدن. كما مارستها الشعوب التي عانت من الطاعون لاعتقادها ان الاله غير راضٍ عنهم وانهم يجب أن يطهرّوا أجسادهم. وجلد الجسم ممارسة قديمة في المسيحية وكان كثير من الكهنة يمارسونها، بل يقال ان مارتن لوثر كنج، ذلك الثائر على المعتقدات الكاثوليكية الكهنوتية قد مارسها ايضاً لتطهير جسمه. وهي ممارسة معروفة عند بعض اليهود كما هي معروفة عند بعض المسلمين. أن القاسم المشترك لكل هذه الممارسات(الجَلدية) للجسم كان تطهير الذات والتكفير عن الذنوب التي يعتقد الشخص أنه أرتكبها. والأهم هنا أن هذه الممارسات كانت دوماً تؤدي الى شعور ذاتي بالراحة وهو شعور يجعل الفرد مقتنعاً أنه أدى واجبه ولم يعد عليه ذنب يوجب العقاب. ويبدو أن إدمان جلد الذات عراقياً يحقق ذات الأغراض التي يحققها جلد الجسم لتطهيره من الذنوب.
أن جلد الذات يمنح الجالدين شعوراً بأنهم يختلفون عن (الأغيار) بكونهم أكثر وعياً بالمشكلة وهم جزء من الحل لا المشكلة. وبدلاً من أن يؤدي وعيهم بالمشكلة الى التحرك للتغيير والأصلاح فأنهم يكتفون من الغنيمةِ بالإياب كما تقول العرب. وهكذا يتحول النقد عندهم الى طقس تطهيري تكفيري (اقصد من الذنب والملامة) بدلاً من أن يكون فعل تقويمي إصلاحي. ومما يزيد في الطين بلة هو ما كشف عنه البحث التجريبي الذي قمت به مع زميلتي گيلفاند من جامعة ستانفورد ونشرناه في الكتاب الموسوم (ثقافة التصلب، منظور جديد لفهم المجتمع العراقي)، من أن العراقيين هم أكثر شعوب الأرض (التي تم قياسها للان) تصلباً في ثقافتهم الاجتماعية. هذا يعني شعورهم الضمني أن الجماعة هي الأهم وبالتالي فهي التي يمكن أن تقوم بالاصلاح او التغيير وأن الفرد عاجز لوحده عن التغيير. لذلك باتت ثقافة الجلد ثقافة جماعية وليست فردية سواء في ممارساتها الجسدية أو المعنوية. ورغم ان التغيير يحتاج فعلاً للجماعة وليس الفرد فقط، لكن حتى الله أمرنا ببدء التغيير في أنفسنا فقال (لا يغير الله ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم). أن جلد الذات الجماعية (أو جلد المجتمع) وجعله الشماعة التي تريحنا حين نضع عليها همومنا سوف لن يجعلنا غير قادرين فقط على نقد أنفسنا، بل سيقدم لنا العذر المريح الذي نعلق عليه فشلنا، تماماً مثلما نفعل مع المؤامرات المزعومة في عقولنا والتي تجعلنا نشعر بأننا شعبٌ مبتلى بمؤامرات ومكايد الآخرين، ومغلوب على أمره ولا يمتلك من مقاليد التغيير ومفاتيحه سوى أنتظار(فرج الله). والسؤال الذي أعاود طرحه دوماً، هل أن فرج الله ونصره هو هبة أو منحة، أم مكافأة إلهية؟ فالمنح تختلف عن المكافآت بكونها لا تحتاج جهداً ولا ترتب ديناً على الممنوح، أما المكافأة فهي نتيجة لجهد قام به الممنوح. والفرق كبير بين الاثنين كما هو واضح. فمنتظري المنح الالهية سيطول انتظارهم في إعتقادي، ليس لعلة لا سمح الله بالمانح بل لعلة أرادها المانح(الله)الذي طالما أكد على السعي الذاتي وعدم انتظار الاخر (سواء كان جماعة أو دولة) ليقوم بالتغيير فنتبعه.
بقي أن أشير الى مثلبة أخرى في جلد الجماعة والشعب والثقافة الاجتماعية طالما رددته مؤخراً أستناداً لنظرية النشوء والتطور الأجتماعي (وليس الخَلقي) التي بنيتُ عليها نظرية تحليل المجتمع العراقي. طبقاً لهذا المنظور لا توجد ثقافة أجتماعية جيدة وأخرى سيئة، كما لا توجد ثقافة متطورة وأخرى متخلفة، وأنما توجد ثقافة ملائمة أو غير ملائمة. فثقافة أي مجتمع (عاداته، وتقاليده، وأنماط تفكيره، وتفاعله، ونتاجه الفكري، وقيمه الشخصية.. الخ) جميعها ناتجة عن تفاعل تاريخي طويل بين الجماعة (او المجتمع) وبين بيئته الأمنية، والجغرافية، والسياسية والديموغرافية، والاقتصادية. هذا التفاعل يجعل الجماعة تتبنى عادات وتقاليد وقيم ومعايير اجتماعية قد تبدو للبعض متخلفة او سيئة لكنها في الواقع تخدم أغراض أجتماعية واقتصادية وسياسية تتطلبها البيئة. فمن ينتقد الشعب العراقي مثلاً لأنه طائفي، عليه أن يدرس سبب ظهور الطائفية والدور الذي لعبته في حفظ وحماية كثير من المجموعات في ظل كثرة المخاطر وغياب مؤسسات الدولة عابرة الطائفة. وهكذا فمن ينتقد ما يسمى بعقلية القطيع عليه أن يدرس تاريخياً وواقعياً الدور الذي لعبته الجماعة (القطيع) في حفظها من المخاطر والظروف التي جابهتها. أرجو هنا أن يفهم القارىء اللبيب أني لا أبرر الظواهر الاجتماعية التي تبدو غير صحيحة، لكني أدعو لفهم أسبابها وسر نشوءها وتطورها وبالتالي فهم كيفية تغييرها إذا اتفقنا على التغيير. وبدلاً من إراحة الذات من خلال جلدها، أدعو الى إراحتها من خلال الأفعال وعدم الاكتفاء بالأقوال. أن تطهير الذات لا يتم لا بالسوط، ولا بالصوت، ولا حتى بالصمت. أنه لا يتم الا بالإرادة والريادة والقيادة، وهذه جميعها ترفض التخدير الذي يمارسه جلد الذات وتستوجب التغيير الذي يبدأ بالذات قبل الجماعة.