البحث المتقدم

البحث المتقدم

الإطاحة بالدولة

0 تقييم المقال

 

وُلد العراق الحديث في 1921 على أنقاض حكم عثماني لثلاث ولايات شكلت بمجموعها ما بات يعرف فيما بعد بمملكة العراق، وفي أعقاب احتلال بريطاني أمتد تدريجياً طيلة سبع سنوات ليشمل العراق من بصرته لموصله.

ولأننا لا نستطيع القول بوجود رسمي (بالمفهوم السياسي للدولة) للعراق قبل ذلك فأن تاريخ تأسيس مملكة العراق هو بداية التاريخ السياسي للعراق. وعلى الرغم من أن أربع انقلابات كبرى لنظام الحكم حصلت منذ ذلك التاريخ ولغاية 1968 الا أن أي من تلك الانقلابات لم يهدم الدولة العراقية كما فعل الاحتلال الأمريكي في 2003. لقد غيّرت تلك الانقلابات النظام السياسي من ملكي الى جمهوري (متعدد الصيغ) لكن لم يتم حل الجهاز البيروقراطي أو العسكري بالصيغة التي حصلت بعد 2003. كما لم يشُب الغموض والفوضى والفراغ مؤسسات الدولة كما حصل في المدة من 2003 ولحين خروج المحتل الأمريكي.

ولم يشهد العراق شبه حرب أهلية اختلطت فيها مفاهيم الطائفية بالإرهاب، والمقاومة، والدين، والقومية كما حصل بعد 2003. فخلال كل تلك الانقلابات حصل انتقال سريع وواضح للسلطة. وحتى التغيير الذي حصل في علاقات القوة بين -أو ضمن- الشبكات الأربعة للقوة التي سبق تحديدها (الايدلوجيا والسياسة والاقتصاد والعسكر) تم بصورة تدريجية متسلسلة. 

فخلال أكثر من ثمانين سنة من تاريخ العراق كان المجال والمزاج الايدلوجيا للعراقيين يتراوح بين القومية والوطنية والأممية، ولم تكن الايدلوجيا الدينية قوية الا في أوساط معينة. كما لم يتم ربط الدولة بالشخوص بصورة قوية الا بعد 1979، بعد أن تسلم صدام السلطة. 

فعلى الرغم من الحضور السياسي الطاغي سواء لملوك العراق، أو قياداته في العصرَين القاسمي والعارفي، الا أنهم جميعاً لم يقرنوا الدولة بهم ،أو يجسدوها من خلالهم كما فعل صدام وهو الأمر الذي كانت له تداعيات وخيمة ستظهر لدينا فيما بعد.

وفي المجال الاقتصادي فعلى الرغم من أن الانتقال من الحكم الملكي للجمهوري تضمن (ضمناً) انتقالاً من الرأسمالية للاشتراكية، الا أن ذلك التحول تم بشكل تدريجي وعبر عدة عقود وبشكل زاد من حجم الطبقة الوسطى وقلل باستمرار من الفروق الاقتصادية بين الطبقات. ولم تظهر طبقة بورجوازية كبرى فجأةً ،حتى مع وجود قطاع خاص نشط في فترات معينة من العراق الملكي والجمهوري، كما حصل بعد 2003.

وعلى الرغم من أن اقتصاد العراق، منذ اكتشاف النفط، صار أكثر اعتماداً على هذا المورد الا أنه لم يصبح في أي يوم دولة ريعية مطلقة كما حصل بعد 2003. فحتى بعد أن تمت محاصرة العراق ومعاقبته اقتصادياً في العقد الأخير من القرن الماضي، أستطاع العراق أن يمضي، وأن كان بصعوبة شديدة، في اقتصاده دون الاعتماد على النفط. 

أما على الصعيد العسكري فقد حافظت المؤسسة العسكرية العراقية على امتدادها برغم التغييرات التي حصلت فيها. وبقيت الدولة العراقية هي المحتكرة الوحيدة للقوة دون أن تنافسها ميليشيا حزبية أو طائفية أو عشائرية أو مافيوية. وحتى على الصعيد السياسي لم يشهد العراق هذه الطفرة (الجينية) في عدد ودور الأحزاب المتنافسة كما حصل بعد 2003.

ولم يعرف العراق سلطةً تشريعية حقيقية طوال تاريخه السابق للاحتلال. وحتى سلطته القضائية ظلت دوما محجّمة في كنف السلطة التنفيذية وتابعة لها. ولم يعرف العراقيون دستوراً يستفتون عليه، أو انتخابات برلمانية ومحلية كالتي شهدها بعد 2003.

فضلاً عن أن الترويج للديموقراطية وتطبيقاتها (بغض النظر عن الرأي فيــــــــــــــــها)، والمـــــــــــــــــــحاصصة ومخرجاتها، والمؤسسة الدينــــــــــية وتداخلاتها جرى بشكل زاد من غموض المشهد ورفع من توقعات المشاهد الحائر. هنا لا بد من التنبيه أني هنا لا أقوّم التاريخ والأنظمة أو أحاكمها، وأنما أحلل التاريخ لاستنباط الدلالات والعِبَر منه. فالتاريخ بالنسبة لي (هنا على الأقل) مادة علمية وليس قيمية.

يخطئ الكثيرون حينما يعتقدون أن الدولة هي مجموعة مؤسسات (تنفيذية وتشريعية وقضائية) تقوم بأدوار معينة. أن هذه النظرة الهيكلية structural للدولة وأن كانت صحيحة في جزء منها، الا أنها تفتقد للحس الوظيفي التفاعلي للدولة. 

وجرياً مع المفهوم الذي تم تبنيه في هذه السلسلة فأن الدولة تقوم على شبكة علاقات تتخلل كل مفاصلها وتتفاعل ضمن مؤسساتها المختلفة وفيما بينها أيضاً. خذ مثلاً شبكات الاقتصاد والمال، ستجد أنها في العراق ترتبط فيما بينها عبر كل مؤسسات الدولة من جهة كما أنها ترتبط بالسياسة والاقتصاد والايدلوجيا والقوة العسكرية. أي أنها تتخلل كل شبكات القوة الأربعة من جهة ومؤسسات الدولة من جهة أخرى.

وهكذا بالنسبة لممثلي القوة العسكرية (الميليشيات). ونفس الشيء بالنسبة للأحزاب السياسية. وعلى الرغم من أن مثل هذه العلاقات كانت موجودة في دولة العراق سابقاً الا أنها كانت محدودة الامتداد وأقل تأثيراً. فمثلاً كانت المؤسسة العسكرية ترتبط بعلاقات تخادم مع المؤسسة السياسية والعكس صحيح.

لكن هذا الامتداد والتأثير كان يخضع (في الغالب) لسلطة المؤسسة التنفيذية للدولة.

وصحيح أيضاً أن رجال المصالح الاقتصادية كانت لهم علاقات بمؤسسات الدولة لكنها كانت محدودة ومضبوطة بقوة الدولة.

لقد جاء زلزال الاحتلال ليغير كل ذلك، ويهدم وينشئ علاقات جديدة على أنقاض القديمة كما سنوضحه في مقالات قادمة.

نعم
هل اعجبك المقال