البحث المتقدم

البحث المتقدم

في ذكرى مولدها: الزهراء و ولادة المرأة القوية

0 تقييم المقال

 

ولدت الصديقة الزهراء ومعها كل عناصر القوة لمرأة متكاملة تنشد السعادة في حياتها، هذه القوة لم تصلها بشهادة علمية، ولا بمنصب مرموق، او وجاهة اجتماعية، إنما صنعتها بيدها الكريمة، وبنفسها الكبيرة، وبجهادها وتضحياتها في طريق الحق.

فمنذ ولادتها وحتى فترة الصبا، ثم الشباب، مرت بمراحل كلها تحديات ومنغّصات، لم تتذوق فيها طعم الراحة قط.

فتحت عينيها ليس على الحياة فقط، مثل أية طفلة صغيرة اخرى، وإنما على الأذى النفسي لوالدها من قبل المشركين فيما هو يرنو لانقاذهم برسالته السماوية السمحاء من الذل والتخلف، الى العزّ والاقتدار، فهي يتيمة الأم، وحيدة في البيت فجأة ترى أباها رسول الله يدخل الدار وعلى رأسه وبدنه الأوساخ التي ألقاها ذلك الشقي قرب الكعبة المشرفة لأنه كان يصلي لله الواحد الأحد، فكانت دموع الألم تنهمر على وجنتيها من هذا المنظر المؤلم، وهي تزيل تلك الأوساخ عنه. 

وقضت طفولتها في شعب أبي طالب، وجربت الحصار الاقتصادي البشع لمدة عامين كاملين، وربما هي المعجزة أن تبقى على قيد الحياة حيث مات الكثير جوعاً ومرضاً، وكانت أبرز خسارة للنبي الأكرم؛ زوجته خديجة وعمّه أبو طالب، وجاء في كتاب "فاطمة الزهراء المرأة النموذجية" للشيخ ابراهيم الاميني، أنها قضت شطراً من ايام الرضاعة في شعب أبي طالب، وفطمت فيه". 

وسط هذه التحديات ترعرعت فاطمة الزهراء واستقت قوة شخصيتها من تحملها مسؤولية الرسالة الى جانب أبيها رسول الله، ومن المعروف، من صفات الأبطال والناجحين في العالم؛ الصبر، والشجاعة، وبعد النظر، فقد كانت من أوائل النسوة المسلمات بعد السيدة خديجة والسيدة فاطمة بنت اسد، زوجة عمها أبوطالب. 

معالم قوة شخصية الصديقة الزهراء
نفهم من القوة في النتائج على ارض الواقع بتحقيق النصر والغلبة في ميدان الصراع، او تحقيق الفائدة بكسب المال أو العلم، وقد كان أمير المؤمنين بعد استشهاد رسول الله، أعلم الجميع، و اشجعهم، بيد أنه أقصي عن الساحة السياسية، فهل كان ضعيفاً؟ وكذا الحال في الظروف التي عاشها نجله الامام الحسن المجتبى، ثم أخيه الامام الحسين، فهل يا ترى مضى ضعيفاً في ساحة المعركة يوم عاشوراء بعد أن استشهد اصحابه وابنائه وإخوته ثم سفك دمه؟

الصديقة الزهراء جسّدت المفهوم الدقيق والصحيح لقوة المرأة من خلال مراحل حياتها، نقتطف باقات منها:

1- قوة العلم.
لم تكن الصديقة الطاهرة بعيدة عن علوم ومعارف رسول الله رغم وجودها في البيت طوال الوقت، فقد كانت تُحاط علماً بأحاديث وخطب أباها في المسجد عن طريق ابناها الحسنان اللذان كانا يمثلان الرسولان من البيت الى المسجد، ثم يرجعا بما قاله جدهما من على المنبر، فكانت تجلس الحسن والحسين على مكان مرتفع في البيت لينطلقا بالحديث خطابة كما يخطب جدهما، ويسردا على أمهما ما قاله بالتمام والكمال، حتى أنها، عليها السلام، لما كان يزورها رسول الله، كان يتعجب من معرفتها بأحاديث أدلى بها للمسلمين في المسجد، فكان يسألها فتجيب، أنه بفضل الامامان الحسن والحسين.

هذه العلوم الربانية كانت تنقلها بدورها الى نساء المسلمين ممن كنّ يفدن عليها لمعرفة اجوبة الكثير من المسائل الشرعية والاحكام الدينية والأخلاقية.

الى جانب أباها رسول الله، فانها كانت زوجة ولي الله الأعظم، وسيد الأوصياء، فقد كانت تنهل منه علوم الأولين والآخرين، وبكلمة؛ فان آلية تعلّم الزهراء كانت الاستماع والاصغاء، وهذه تُعد من المفاتيح نحو الحقائق العلمية في الحياة، وقد أكد العلماء والحكماء اليوم على محورية هذه المسألة في مسيرة التعليم والتربية ايضاً. 

2- قوة الأخلاق
روى الإمام الحسن المجتبى أنه لاحظ أمه الزهراء تجتهد في الصلاة والدعاء والتضرّع الى الله –تعالى- وتكثر من الدعاء لجيرانها في المنطقة السكنية بالمدينة، فسألها أن تدعو لهم ايضاً، فقالت، سلام الله عليها: "ولدي؛ الجار ثم الدار".

وذات مرة جاءها رجل فقير معدم من الطعام والكساء، ويكاد يكون عرانياً، وطرق الباب، وكان من قبل قد ذهب الى المسجد، وقد أرسله رسول الله على دار ابنته فاطمة لأنه لم يكن لديه شيء، فقال له: اذهب الى بيت يحبّه الله –تعالى-، فسألها ان تعطيه ما يشبع جوعته ويستر عورته –كما جاء في نص الرواية- فاخذت قلادة كان في جيدها أهدتها احدى النساء بمناسبة زواجها، واعطته لهذا الفقير، وقالت له: اذهب وبعه لعله يفي بطلبك، فانطلق الى المسجد وبيه القلادة، فلقاه عمار –في رواية طويلة- فاشتراه منه بعشرة دنانير وبردة يمنية، فشكره الرجل، وقد عزّ على عمار ان يبقي هذه القلادة عنده، فوضعها في قطعة قماش رقيقة وأرسلها بيد غلام له الى رسول الله، فكانت هذه القلادة سبباً لتحرير رقبة هذا الغلام، ثم تعود الى صاحبتها سيدة نساء العالمين خلال فترة وجيزة.

العبرة من هذه القصة، أن الصديقة الزهراء، إن لم تكن تدعو للجار، وتدعو فقط لأولادها ولنفسها واقربائها، أو كانت تجيب ذلك الفقير بـ "الله يعطيك" كما يعتاد الكثير عليها هذه الايام، لما كانت فاعلة سوءاً قط، علماً أن أباها رسول الله قالها قبلها للفقير بأن ليس لديه شيء يعطيه، بيد أنها ارادت تثبيت موقف اخلاقي رفيع للأجيال الى يوم القيامة بأن قوة شخصية المرأة المستورة في دارها في مواقفها الأخلاقية مع الجار ومع الناس.

3- قوة الإيمان
وهي القوة المفقودة لدى افراد الأمة منذ صدر الإسلام وحتى يومنا هذا بخلاف سائر القوى مثل المال والسلطة والعلم، بل وحتى يتبجح البعض بأن له القوة الغضبية والعصبية التي يتصور أنها مانعته من تطاول الآخرين عليه، بينما الحقيقة الناصعة امامنا تؤكد عدم جدوائية العلم والمال والسلطة و"العنتريات" في تحقيق الأمن والازدهار والاستقرار للأمة، فكل ما لدينا –في العراق مثلاً- هو القلق، والفساد، وعدم الثقة، وعدم الاستقرار في كل شيء رغم وجود العلماء والأقوياء وأصحاب المال والجاه. 

إن واقعة الخطبة الصاعقة التي ألقتها في مسجد أباها رسول الله في ذلك الجمع الحاشد من المسلمين، بما تُسمى "الخطبة الفدكية"، تجسد قمة إيمان الصديقة الزهراء بالله –تعالى- وبرسالته، وأنها تمثل امتداد هذه الرسالة في الأمة من خلال الوقوف بحزم وشجاعة فائقة أمام الانقلابيين والمنتهكين لحرمة الدين، وحرمة رسول الله، بالتنكّر لآيات الله في القرآن الكريم، ولما وصاهم نبيهم من حفظه في أهل بيته، فأحيت بموقفها ما اراد أولئك الانقلابيون قتله من تعاليم السماء وأحكامه وقيمه. 

وفي تفسيره للحديث القدسي في خطاب الرب –جلّ وعلا- لرسوله: "ولولا فاطمة لما خلقتكما"، والإشارة الى الرسول والى أمير المؤمنين، يقول المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه "فاطمة امتداد النبوة"، "لولا مواقف الزهراء في فضح الذين حكموا باسم الاسلام، لالتبس الأمر على المسلمين، فكانت من حفظة الدين"، ويضيف المرجع الراحل موضحاً؛ بأن الحديث القدسي يكشف عن "حكمة وجود الصديقة الزهراء في الحياة للحفاظ على الإسلام، وتحقيق الغاية من خلق الانسان وخلق الرسول الأعظم". 

والى اليوم، تقف تلك الكلمات الصاعقة للزهراء أمام كل انحراف وفساد يحصل في الامة الى يوم القيامة، فمهما فعلوا وبنوا وأسسوا وبذلوا، لن يكسبوا سوى الخسارة والفضيحة في تناقضهم مع الحق والفضيلة بوجود الصرح الإيماني الشامخ الذي أرست دعائمه بمواقفها الشجاعة أمام اهل الباطل والانحراف، وعلى هذا الطريق مضى أمير المؤمنين، ومن بعده الأئمة المعصومين، عليهم السلام.

البيت مصدر قوة المرأة 
نفهم من كل هذا أن المرأة تكتسب قوة شخصيتها من داخل بيتها، وخلال معايشتها مع زوجها وابنائها، وقبل ذلك؛ مع أبيها و افراد أسرتها، فهي في صباها، ربما تكون أمّاً لاخوتها في حال موت الأم الوالدة، كما كانت الزهراء "أم أبيها"، او تكون المعينة والمدبّرة مع أمها بفقد أبيها، وأن تكون مثال العفّة والأخلاق والتدبير في أسرتها وبين أقربائها والمحيط الاجتماعي. 

يكفي إلقاء نظرة خاطفة على كلمة "السَكن" الواردة في القرآن الكريم في علّة خلق المرأة الأنثى الى جانب الرجل الذَكر، {{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، (سورة الروم- الآية21)، وهذا السكن جسدته الزهراء بأروع صوره في تعاملها مع زوجها أمير المؤمنين الذي كان قائداً عسكرياً واضعاً كفّه على يده في سوح القتال حفاظاً على الدين ورسالة النبي الأكرم، وعندما كان يعود الى البيت، وهو مثقل بالجراح والهموم، كانت تستقبله فاطمة بذلك الوجه المشرق، ولنتعرف على تفاصيل هذا الاستقبال من لسان أمير المؤمنين نفسه وهو يصف الصديقة الزهراء –طبعاً بعد استشهادها- "ولقد كنت أنظر اليها فتنجلي عني الغموم والاحزان بنظرتي اليها"، ويا له من موقف عظيم ونبيل! 

وبمعنى أنها كانت تمثل الجبهة الخلفية للجيش الاسلامي بأكمله، فعندما يستعيد القائد نشاطه وثقته وحيويته فهذا ينعكس مباشرة على الجيش وعلى مؤسسات الدولة، بل وحتى على جماهير الشعب، وحسب الشيخ الاميني في كتابه المشار اليه: "إن البيت الذي كانت تديره فاطمة لا يقل عن إدارة دولة كاملة"، وهذا يصدق على كل رجل في أي منصب أو مكان يعمل فيه خارج البيت، سواءً؛ في المدرسة أو الجامعة، او المستشفى، او السوق، أو في الجيش والشرطة، وأي مكان آخر. 

هذه هي القوة الحقيقية لأية امرأة تنشد النجاح في حياتها، وان تعيش بعيداً عن الازمات والفشل والضياع، وهي قوة ليس بامكان أحد مهما أوتي من قوى مادية مواجهتها بدليل سيرة الصديقة الزهراء التي نحتفي هذه الايام بذكرى مولدها السعيد، التي عاشت كريمة وسعيدة وماتت شجاعة.

وقبل الختام؛ يجدر بنا التأكيد على أن الصديقة الزهراء لا تنفي ان تكون المرأة ثرية وعالمة، وأن تكون ذات جاه في المجتمع، إنما لا تكون هذه العوامل المادية طريقها لتحقيق اهدافها السامية في تربية جيل سليم في أخلاقه وفكره، وبناء مجتمع ناهض ومتطلع الى غد أفضل.  

نعم
هل اعجبك المقال