يوماً بعد آخر تدفعنا التطورات السياسية الى مزيد من التفاعل، لاسيما وأننا نشهد نزيفاً حاداً مستمراً وإزهاق للأرواح بالجملة في فلسطين ولبنان، مع دمار هائل ونزوح مريع مما يدعونا الى مزيد من الدقّة في تقييم الأحداث، والحسم في الموقف بناءً على رؤية عميقة وشاملة مع تحمل المسؤولية الأخلاقية والحضارية لما يجري من حرب مفتوحة بين الكيان الصهيوني وقوى المقاومة في المنطقة بشكل عام.
وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت اليوم لسان المتفاعلين للتعبير عن مشاعر الغضب والاستنكار للأعمال العدوانية ضد المدنيين في فلسطين ولبنان، تحمل الصفة "السندويشية"، كما كان يطلق على نوع من الاخبار الصحفية ذات التأثير السريع والعابر، واليوم نعيش تقنية الصورة أكثر من تقنية اللغة والمنطق في الحديث، فتكون المشاعر، لا العقل، هي المستهدفة لإثارتها وتعبئة النفوس لخلق موقف معين، بيد أن الإثارات السريعة والعابرة لا تنسجم مع أبعاد واسعة وآثار عميقة لهذه الحرب، فمن غير المعقول صنع فقاعة كبيرة وجميلة لمواجهة رصاصة حارقة.
لا نختلف في أهمية دور العواطف والمشاعر في تعبئة الرأي العام لنصرة قضية عادلة ضد سلطة غاشمة، أو لاستعادة الحقوق والكرامة، وهذا يصدق على بلد يشكو الديكتاتورية والفساد، ولجماعات ناهضة تطالب بالتغيير والإصلاح.
فما نلاحظه من منشورات عن ضحايا العدوان الاسرائيلي، او مقاطع قديمة لشخصيات سياسية تهدد العدو على أنها جديدة، أو نشر صورة مفبركة للشهيد السنوار وهو مفتول العضلات يحمل رشاشاً تشبهاً بشخصية "رامبو" السينمائية، او نشر مقطع لطفلة صغيرة بملابس رثّة وسط منطقة فقيرة، على أنها طفلة من غزّة تأخذ قطعة حلوى بشيء من الغرابة واللهفة كناية عن حالة الجوع –مثلاً- ثم تبين أن الصورة تعود لطفلة تركية في إحدى القرى الفقيرة، والصورة مأخوذة من موقع مصور تركي، وكثيرة هي الامثلة على صور مفبركة، او مقاطع قديمة على أنها جديدة تستهدف إثارة المشاعر لكسب أكبر عدد من المؤيدين والمتفاعلين، بينما التجارب أثبتت أن هذا الاسلوب يعود بالضرر على أصحابه بدلاً من الفائدة المرجوة.
لسان العاطفة غير مجدٍ
اذا كان لوحده طبعاً؛ لأن إدانة الظالم بحاجة الى لغة العقل والمنطق لتطويقه بالأدلة الدامغة التي من شأنها كسب القضية عند الرأي العام، وتحولها من قضية محدودة بشخص او جماعة او حتى شعب في بقعة ما، الى قضية عادلة تمسّ كرامة ومصير الأمة.
نحن نتحدث عن تنصّل أنظمة سياسية في المنطقة عن نصرة الشعبين في فلسطين ولبنان، فهذا شأنهم السياسي ومصالحهم من القوى الكبرى المعنية بالحرب، لكن ماذا عن الشعوب، هل لديها فكرة عن خلفيات هذه الحرب، وحقيقة الكيان الصهيوني؟
علماً؛ أن الجانب المعرفي يشمل المتفاعلين ايضاً، لتكون مواقفهم أكثر أصالة في مقابل متغيرات سياسية ربما تضع حداً لهذه الحرب، كما فعلت مع حروب عدّة شهدناها في المنطقة، فعندما تنتهي الحرب يفترض ان لا تنتهي اسبابها اذا كانت عادلة، فالشعب المصري لم يتحول الى صديق للشعب الاسرائيلي لمجرد توقيع زعيم مصر آنذاك، أنور السادات معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، ربما لمعرفته أكثر من سائر الشعوب العربية والاسلامية بالعقلية التوسعية والعدوانية لهذا الكيان.
وهذا يذكرني بمشروع الإطاحة بنظام صدام على يد الاميركيين، فمن الاخطاء المنهجية في هذا المشروع؛ تجاوز الاميركيين لسان العاطفة المشحون بمشاهد القتل والتعذيب والتهجير والاعدامات طيلة فترة حكم حزب البعث، وتحديداً في فترة حكم صدام، فكان لأصحاب القرار في البيت الابيض رؤية إزاء شخص صدام غير التي في أذهان العراقيين المكتوين بناره، فجاء تخليصهم من هذا الكابوس كتحصيل حاصل فقط، لذا بقيت شريحة من الشعب العراقي تعتقد أن صدام يمثل صمام أمان لاستقرار العراق اجتماعياً وسياسياً، حتى الفترة التي أعقبت سقوطه وتذوق الناس لأول مرة طعم الحرية بكل اشكالها، بيد أنهم كانوا ينظرون بعين القلق على مصير الأمن والنظام في غيابه رغم مشاهد المقابر الجماعية، وانكشاف ما ارتكبه من هدر بالثروة وامتهان الكرامة، لاسيما في فترة الحصار، لأن الحلقة المعرفية المفقودة في الذهنية العراقية، وهي أن صدام وفّر الأمن والاستقرار للناس ليضمن أمن واستقرار الكرسي الذي يجلس عليه.
البحث عن انتصارات في مصائب الآخرين
هالني جداً الربط بين أعاصير تضرب المدن الاميركية مسببة وفيات بين السكان، والقتلى في فلسطين ولبنان بسبب الاسلحة الاميركية لدى الجيش الاسرائيلي!
الاخوة المقيمين في الولايات المتحدة يعرفون أن هذه الاعاصير تمثل ظاهرة طبيعية ملازمة للقارة الاميركية الشمالية، فهي تحصل باستمرار، كما هي الزلازل في اليابان، والسبب في مشاطئة مدن اميركية لسواحل المحيطين الاطلسي والهادئ، ومن غير المنطقي خلق محاكمة وهمية في الاذهان تحكم بالموت على المواطنين الاميركيين بالأعاصير نكالاً بحكومتهم التي تزود الكيان الصهيوني بالأسلحة التي تقتل بها الفلسطينيين واللبنانيين!
وحتى الخلافات السياسية داخل الكيان الصهيوني لا تعد ثغرة يمكن من خلالها تحقيق انتصارات عليه، فهم يعدونه ممارسة ديمقراطية، فالحزب الذي يدين رئيس الحكومة الحالي ويطالب بإقالته ليس لأنه يمارس الإبادة الجماعية في مدينة غزّة، وإنما فشل في تحقيق مصلحة "الدولة الاسرائيلية"، فاذا نفرح بهذه المطالبة، او بسقوط الرئيس الحالي، يعني أننا نؤيد خلفه ومنافسه في الحكم من احزاب اسرائيلية اخرى تدّعي الجدارة اكثر منه لتحقيق تلك الاهداف الكبيرة بالنسبة لهم.
نحن ننتصر عندما تصل كلمتنا الى الرأي العام داخل الكيان الصهيوني بأنه مخدوع؛ ليس فقط من هذا الحزب او تلك الشخصية، وإنما من فلسفة النظام السياسي والكيان برمته، وأنه مستقبله الى مجهول لأنه يعيش على أرض مغتصبة ليست له، وستبقى ساخنة غير آمنة تحته مهما طال الزمن، وأن اصحاب الأرض الشرعيين ليسوا ارهابيين ولا مخربين كما يروج إعلام الاحتلال.
إن مشاهد أشلاء الاطفال والنساء في غزة والمدن اللبنانية يجب ان تحملها صفحات من الأدلة والبراهين الى العالم بأن هذه الأشلاء هم ضحية فلسفة سياسية مقيتة تقول بالعيش بأمان للشعب اليهودي على أرض فلسطين دون هؤلاء، بل حتى قبل أن تفكر الشعوب الاخرى القريبة بهذا الأمن، أو ان تسجل استسلامها وخضوعها لهذه الفلسفة والمنهج العدواني، وإلا فما نراه من مشاهد مؤلمة وصادمة كل يوم تدعو كل صاحب مشاعر انسانية المطالبة بوقف هذه الحرب فوراً بأي شكل من الاشكال، وهذا يعني أننا –في المرحلة السلمية المقبلة- سنطوي صحفة اخرى في تاريخ جرائم الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، وتكون غزّة مجرد اسم بعد اسماء مثل دير ياسين، وتل الزعتر.