ثقافة السلبية في المجتمع العراقي: بين الوعي الجمعي والتوجيه الخفي
جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى عن الامكانية "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" (يوسف 54-55) "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ" معناه: أن الملك لما تبين له أمانة يوسف وبراءته من السوء وعلمه أمر بإحضاره فقال: ائتوني به " أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي" أي: أجعله خالصا لنفسي أرجع إليه في تدبير مملكتي وأعمل على إشارته في مهمات أموري " فلما كلمه " هاهنا حذف معناه فلما جاء الرسول يوسف ودعاه خرج من السجن ودخل على الملك وكلمه وعرف فضله وأمانته وعقله لأنه استدل بكلامه على عقله وبعفته على أمانته " قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ" (يوسف 54) أي: إنك عندنا ذو مكانة متمكن في المنزلة والقدر نافذ القول والأمر ظاهر الأمانة مأمون ثقة قال ابن عباس: يريد مكنتك من ملكي وجعلت سلطانك فيه كسلطاني وائتمنتك فيه قال الكلبي: أن رسول الملك جاءه فقال له: قم فإن الملك يدعوك وألق ثياب السجن عنك والبس ثيابا جددا فأقبل يوسف وتنظف من درن السجن ولبس ثيابه وأتى الملك وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة فلما رآه الملك شابا حدث السن قال: يا غلام هذا تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة ولا الكهنة قال: نعم فأقعده قدامه وقص عليه رؤياه. وروي أن يوسف لما خرج من السجن دعا لأهله وقال: اللهم اعطف عليهم بقلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فلذلك يكون أصحاب السجن أعرف الناس بالأخبار في كل بلدة وكتب على باب السجن هذا قبور الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء قال وهب: ولما وقف بباب الملك قال:حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره ولما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره ولما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية فقال له الملك: ما هذا اللسان قال لسان عمي إسماعيل ثم دعا له بالعبرانية فقال له الملك: ما هذا اللسان قال: لسان آبائي قال وهب: وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلما كلم يوسف بلسان أجابه بذلك اللسان فأعجب الملك ما رأى منه فقال له: إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها. فقال يوسف: نعم أيها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب غر حسان كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهن لبنا فبينا تنظر إليهن ويعجبك حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدأ يبسه فخرج من حمئة ووحلة سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون ليس لهن ضروع ولا أخلاف ولهن أنياب وأضراس وأكف كأكف الكلام وخراطيم كخراطيم السباع فاختلطن بالسمان فافترستهن افتراس السبع فأكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن وتمششن مخهن فبينا أنت تنظر وتتعجب إذا سبع سنابل خضر وأخر سود في منبت واحد عروقهن في الثرى والماء فبينا أنت تقول في نفسك أنى هذا وهؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد وأصولهن في الماء إذ هبت ريح فذرت الأرفات من اليابسات السود على الثمرات الخضر فاشتعلت فيهن النار وأحرقتهن وصرن سودا متغيرات فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا ثم انتبهت من نومك مذعورا. فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجبا بأعجب مما سمعته منك فما ترى في رؤياي أيها الصديق فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة وتبني الأهراء والخزائن فتجمع الطعام فيها بقصبة وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفا للدواب وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ويأتيك الخلق من النواحي فيمتارون منك بحكمك ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفي الشغل فيه فعند ذلك " قال" يوسف " اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ" (يوسف 55) الألف واللام في الأرض للعهد دون الجنس يعني: اجعلني على خزائن أرضك حافظا وواليا واجعل تدبيرها إلي.
ويستطرد نبي الله يوسف عليه السلام قائلا للملك كما جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: "إني حفيظ" (يوسف 55) أي: حافظ لما استودعتني لحفظه عن أن تجري فيه خيانة " عليم " بمن يستحق منها شيئا ومن لا يستحق فأضعها مواضعها عن قتادة وابن إسحاق والجبائي وقيل: حفيظ عليم أي: كاتب حاسب عن وهب: وقيل حفيظ للتقدير في هذه السنين الجدبة عليم بوقت الجوع حين يقع عن الكلبي وقيل حفيظ للحساب عالم بالألسن وذلك أن الناس يفدون من كل ناحية ويتكلمون بلغات مختلفة عن السدي وفي هذا دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه فإنه عرف الملك حاله ليقيمه في الأمور التي في إيالتها صلاح العباد والبلاد ولم يدخل بذلك تحت قوله سبحانه "فلا تزكوا أنفسكم". قالوا: فقال الملك: ومن أحق به منك فولاه ذلك وقيل: أن الملك الأكبر فوض إليه أمر مصر ودخل بيته وعزل قطفير وجعل يوسف مكانه وقيل: إن قطفير هلك في تلك الليالي فزوج الملك يوسف راعيل امرأة قطفير العزيز فدخل بها يوسف فوجدها عذراء ولما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين وولدت له أفرائيم وميشا واستوثق ليوسف ملك مصر وقيل: أنه لم يتزوجها يوسف وأنها لما رأته في موكبه بكت وقالت الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيدا والعبيد بالطاعة ملوكا فضمها إليه وكانت من عياله حتى ماتت عنده ولم يتزوجها. وفي تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم قال: لما مات العزيز وذلك في السنين الجدبة افتقرت امرأة العزيز واحتاجت حتى سألت الناس فقالوا لها: ما يضرك لوقعدت للعزيز وكان يوسف يسمى العزيز وكل ملك كان لهم سموه بهذا الاسم فقالت: أستحي منه فلم يزالوا بها حتى قعدت له فأقبل يوسف في موكبه فقامت إليه زليخا وقالت سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيدا والعبيد بالطاعة ملوكا فقال لها: يوسف أ أنت تيك قالت نعم وكان اسمها زليخا فقال لها: هل لك في قالت: دعني بعد ما يئست أ تهزأ بي قال: لا قالت: نعم قال: فأمر بها فحولت إلى منزله وكانت هرمة فقال لها يوسف: ألست فعلت بي كذا وكذا قالت: يا نبي الله لا تلمني فإني بليت في بلاء لم يبل به أحد قال: وما هو قالت: بليت بحبك ولم يخلق الله لك نظيرا في الدنيا وبليت بأنه لم تكن بمصر امرأة أجمل مني ولا اكثر مالا مني وبليت بزوج عنين فقال لها يوسف: فما حاجتك قالت: تسأل الله أن يرد علي شبابي فسأل الله فرد عليها فتزوجها وهي بك.
وروي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال رحم الله أخي يوسف لولم يقل اجعلني على خزائن الأرض لولاه من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة قال ابن عباس: فأقام في بيت الملك سنة فلما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الأمير فتوجه ورداه بسيفه وأمر بأن يوضع له سرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت ويضرب عليه كلة من استبرق ثم أمره أن يخرج متوجا لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك فعدل بين الناس فأحبه الرجال والنساء وذلك قوله عز اسمه " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ" (يوسف 56) أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه أقدرنا يوسف على ما يريد في الأرض يعني أرض مصر.




تقييم المقال


