قصة الملك الذي انتخب المتمكن والأمين في تفسير البيان للطبرسي
من النادر أن تجد في فضاءنا الاجتماعي منشورات أو أحاديث تتناول الجوانب الإيجابية في العراق، رغم أنها كثيرة ومتنوعة وتمتد من المبادرات الفردية البسيطة إلى الإنجازات الوطنية الكبرى... ؛ إلا أنّ ما يهيمن على المشهد الإعلامي والشعبي هو التركيز المفرط على السلبيات، والعنف، والفشل، والفساد، وكأنّ الوعي الجمعي بات أسيراً لصورةٍ سوداوية لا يرى من خلالها سوى العتمة.
هذه الظاهرة ليست مجرد مصادفة، بل تعكس أزمةً مركّبة تتداخل فيها العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية... ؛ نعم هذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل هي تراكمٌ تاريخيٌّ طويل لجملةٍ من العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية التي كوّنت لدى الفرد العراقي نظرةً متوجسة تجاه ذاته ومجتمعه ودولته... ؛ فمنذ بداية القرن العشرين - هذا فيما يتعلق بالتاريخ المعاصر فحسب - ؛ عاش العراق تقلباتٍ حادّة بين صعودٍ وهبوط، بين نهضاتٍ فكرية وحروبٍ متتالية، بين مشاريع تحديثٍ وانقلاباتٍ مفاجئة، حتى أصبحت الذاكرة الجمعية مثقلةً بالخوف والخذلان والانتكاسات وفقدان الثقة بالاستقرار والشعور بالأمان ... ؛ وفي ظلّ هذا الإرث الثقيل، ترسّخت في الوعي العام عادةُ النظر إلى الواقع من زاوية الألم، وكأنّ السلبية أصبحت أسلوبًا دفاعيًا يجنّب الفرد صدمة الأمل المجهض... ؛ مما ولّد لدى المواطن العراقي ميلاً لتفريغ الغضب والاحتقان عبر تضخيم السلبيات وتسليط الضوء عليها.
إنّ الحديث عن الفساد والفشل والظلم أصبح نوعًا من "التنفيس الجمعي" الذي يمنح الناس شعورًا زائفًا بالمشاركة والتعبير، لكنه في الواقع يعمّق الشعور بالعجز واليأس.
فمن الناحية النفسية، يمكن القول إنّ المجتمع العراقي يعيش حالة "تعبٍ وجدانيٍ جمعي"، حيث فقدت المشاعر الإيجابية فاعليتها في مقابل تراكم الإحباطات. فكل محاولةٍ للتفاؤل تقابلها ذاكرةٌ مثقلة بالخيبات، وكل إنجازٍ يُقابَل بتشكيكٍ مسبق... ؛ لذا يلجأ كثيرون إلى تضخيم السلبيات بوصفها تعبيرًا عن الوعي والنضج السياسي، بينما يُنظر إلى الحديث عن الإيجابيات على أنه سذاجة أو مجاملة أو تجاهلٌ للواقع... ؛ وهنا تكمن المعضلة النفسية الكبرى: اختلاط الوعي بالنقمة، والصدق بالسوداوية.
أما من الناحية الاجتماعية، فقد أسهمت وسائل التواصل الحديثة في تضخيم الظاهرة ... ؛ وقد تشكّلت بيئة إعلامية وثقافية تغذّي هذا النمط من التفكير , و لم تعد الأخبار السلبية مجرد انعكاسٍ للواقع، بل تحوّلت إلى محتوى تسويقيٍّ مقصود يعتمد على الإثارة والتفاعل ... ؛ اذ تتسابق وسائل التواصل والإعلام في إبراز المآسي والفضائح والمشاهد المثيرة للغضب، لأنّها تحظى بمزيد من التفاعل والانتشار... ؛ وهكذا، باتت السلبية سلعةً رائجة في سوق الوعي، تُباع وتُشترى بمقاييس "الإعجابات" والمشاركات... ؛ فالصورة التي تثير الغضب تنتشر أسرع من الصورة التي تثير الأمل، والحدث السيئ يُعاد تداوله آلاف المرات، بينما يُهمَل النجاح الصغير ولا يجد من يحتفي به... ؛ وهكذا، تشكّل نظامٌ إعلاميٌّ موازٍ لا يخضع لمعايير الموضوعية أو التوازن، بل يغذّي نفسيةً جماعيةً تقوم على التوتر والخوف من المستقبل.
ومن زاويةٍ سياسية، لا يمكن إغفال أنّ تضخيم السلبيات وتجاهل الإيجابيات قد يخدم جهاتٍ معينة تسعى إلى تثبيت صورة الانهيار الدائم، لتبقى الجماهير في حالة شكّ دائم بالمؤسسات، وانقسامٍ مستمرٍّ في ما بينها، وضعفٍ في الثقة الوطنية الجامعة... ؛ فالإحباط الجماعي بيئة خصبة لتمرير الخطط، وتسهيل السيطرة، وإضعاف أي حراكٍ وطنيٍ إيجابي... ؛ نعم لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن طبيعة الصراع على الوعي الجمعي... ؛ فالمبالغة في نقل السلبيات وغضّ الطرف عن الإيجابيات تخدم، في كثير من الأحيان، مصالح قوى محلية عميلة أو خارجية معادية تسعى إلى تثبيت صورةٍ قاتمة عن العراق، لتبقى الجماهير في حالة فقدانٍ للثقة بالنظام والدولة، ولتتحول فكرة الإصلاح إلى مجرد وهم... ؛ فالشعب المحبط لا يطالب، والمجتمع الذي يرى نفسه فاشلًا لا ينهض، والوعي الذي يقتنع بالعجز يُدار لا يُقرّر... ؛ ومن هنا، يصبح نشر السلبية أداةَ حكمٍ ناعمة، لا تقلّ خطورة عن أدوات القمع الصلبة.
تاريخيًا، يمكن القول إنّ العراق عرف فتراتٍ ازدهارٍ فكري وثقافي لم تحظَ بالاحتفاء الكافي... ؛ فذاكرته الجمعية اختزنت صور الخراب أكثر مما حفظت صور البناء... ؛ من الدولة العباسية إلى النهضة الحديثة، كانت لحظات الإبداع والإنجاز تُطوى سريعًا في صفحات التاريخ، بينما تبقى الحروب والدمار مادة الحكايات والموروث الشعبي... ؛ هذا الانتقاء التاريخي في الذاكرة جعل الثقافة العراقية تميل، على نحوٍ لا واعٍ، إلى سرد الألم بدلًا من سرد النهوض.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أنّ المجتمع العراقي يحمل طاقاتٍ إيجابية هائلة، تتجلّى في مبادراتٍ فردية وجماعية في ميادين العلم والفن والإغاثة والوعي المدني... ؛ إلا أنّ غياب منظومة إعلامية تربط بين هذه الطاقات وتحوّلها إلى سردية وطنية جامعة جعلها متناثرة، لا تشكّل صورة متماسكة في الوعي العام. فالخير موجود، لكنه غير مرئي؛ والإنجاز قائم، لكنه بلا صوت.
يبقى السؤال: هل نحن ضحايا خطةٍ مدروسةٍ لزرع اليأس فينا، أم أننا بأنفسنا نغذّي هذه الثقافة دون وعي؟
الجواب ربّما يكمن في مزيجٍ من الاثنين... ؛ فالقوة التي يمتلكها "الوعي الجمعي" العراقي كفيلةٌ بتغيير الصورة، متى ما قرّر أن يرى النور كما يرى العتمة. فكما نملك الجرأة على النقد، علينا أن نملك الشجاعة على الاعتراف بالخير، وتقدير الإيجابيات، وإبراز ما يُصلح لا ما يُفسد.
إنّ استعادة التوازن في نظرتنا إلى أنفسنا ومجتمعنا ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء وعيٍ صحيٍّ قادرٍ على النهوض من ركام السلبية... ؛ فالمجتمعات لا تُبنى بالنقمة، بل بالإيمان بالقدرة على التغيير، وبالإصرار على رؤية ما يستحق الحياة في وطنٍ يستحق أن يُرى بعيون الأمل لا بعين الشكوى الدائمة.
إنّ مواجهة ثقافة السلبية لا تعني تجاهل الواقع أو التجميل الزائف، بل تعني استعادة التوازن في النظرة إلى الذات... ؛ فالنقد البنّاء لا يكتمل إلا حين يُقابله إيمانٌ بالقدرة على الإصلاح، والتشخيص لا يكون نافعًا ما لم يُقترن بالحلّ والأمل... ؛ فالأمم التي تنهض لا تفعل ذلك لأنها خالية من السلبيات، بل لأنها تملك الشجاعة في مواجهة عيوبها دون أن تفقد ثقتها بذاتها.
إنّ المجتمع العراقي اليوم بحاجةٍ إلى إعادة بناء خطابه الجمعي، ليكون أكثر إنصافًا وعدلًا في رؤيته للواقع. فالوعي الإيجابي ليس وهماً أو خيالًا، بل فعل مقاومةٍ ضد ثقافة التيئيس ... ؛ علينا أن نعيد تعريف "الوعي" لا بوصفه قدرة على النقد فقط، بل بوصفه أيضًا قدرة على الإيمان بجدوى الحياة والإصلاح... ؛ فالوطن لا ينهض باللعن، بل بالفعل، ولا يتطهر بالشكوى، بل بالإصرار على رؤية ما يُنقذ لا ما يُنهك.
فربّما آن الأوان أن نكسر حلقة السلبية، وأن نعيد إلى وعينا الجمعي ميزانه الطبيعي، لنرى العراق كما هو: بلدٌ يتألم، نعم، لكنه أيضًا بلدٌ ينهض، ويُبدع، ويستحق أن نرويه كما نعيشه — لا كما خُطط أن نراه.




تقييم المقال


