البحث المتقدم

البحث المتقدم

ظواهر 7 / زيف المعنى.. عن الباطل حين يلبس ثوب الحق

0 تقييم المقال

في زمن تداخل فيه المعنى مع الصورة، واختلطت فيه الحدود الفاصلة بين الحق والباطل، يقف الإنسان المعاصر في مواجهة تيار ثقافي جارف، يلبّس الخطأ ثوب الفضيلة، ويجمّل القبح ليغدو معيارًا يُحتذى به، اذ أصبح تزيين الباطل ممارسة ممنهجة، لا تُخاض بالسلاح أو بالعنف، بل بالألوان، والصور، والإيحاءات، والكلمات الناعمة التي تخاطب الوجدان وتتسلل إلى الفكر من دون مقاومة.

إننا نشهد اليوم انقلابًا في المفاهيم، يتم فيه تسويق الانحراف بوصفه حرية، والعري على أنه فن، والإلحاد كأنه تفكير عقلاني، والانفلات الأخلاقي باعتباره تمكينًا وتحررًا، وهذه الظاهرة ليست جديدة في تاريخ البشرية، لكنها في عصر العولمة الرقمية، أخذت طابعًا أكثر تعقيدًا وتأثيرًا، بفعل الأدوات المتطورة التي يملكها الإعلام المعاصر، والفضاء المفتوح الذي تصنعه المنصات الرقمية، حيث تنتقل القيم والمعايير الجديدة بسرعة الضوء، وتتغلغل في الثقافة اليومية بلا حواجز ولا غربلة.

لقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة حين قال: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 42]، محذرًا من أخطر أشكال الانحراف، وهو خلط الأوراق، وتشويه الحقيقة عبر تزويق الخطأ وإضفاء الشرعية عليه من خلال العاطفة أو المظهر الخادع، فحين يُقَدَّم الباطل بلباس أنيق، قد لا يثير النفور، بل ربما يستدر التعاطف أو ينال الإعجاب.

ومن أدوات هذا التزيين اليوم، التلاعب باللغة؛ حيث تُنتزع المفاهيم من جذورها، وتُغلف بألفاظ جديدة مغرية، فتصير الفاحشة "اختيارًا حرًّا"، والانحراف الجنسي "هوية إنسانية"، والتمرد على الدين "وعيًا"، بل وصل الأمر إلى تمجيد شخصيات إجرامية بوصفها "أبطالًا شعبيين"، وتسويق العنف على أنه "رد فعل طبيعي"، أما أدوات هذا التزييف فهي متعددة، تتراوح بين الفن والدراما، مرورًا بالإعلانات، وانتهاءً بالخطاب السياسي والثقافي.

لقد أشارت تقارير الأمم المتحدة، ومنها تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2022، إلى أثر الإعلام في تشكيل القيم الاجتماعية، موضحة أن ضعف المناعة الثقافية والقانونية لدى المجتمعات يجعلها أكثر عرضة لتبني أنماط سلوكية وافدة ومشوشة، خصوصًا بين فئة الشباب، وفي السياق ذاته، تحدث تقرير صادر عن منظمة اليونسكو (2023) عن تنامي ظاهرة "إعادة تعريف الهوية" لدى الجيل الرقمي، بفعل المحتوى العابر للثقافات، والذي كثيرًا ما يروّج لقيم لا تنسجم مع الخصوصية الثقافية والدينية لمجتمعاتنا.

ولا يمكن الحديث عن تزيين الباطل دون الإشارة إلى العامل النفسي الذي يجعل الإنسان ميالًا إلى قبول ما يرضي رغباته ويبرر له ضعفه. يقول علماء النفس الاجتماعي إن الإنسان يميل إلى تصديق ما يتماشى مع أهوائه، لا ما يتسق مع الحق دائمًا، وهذه القابلية تُستغل ببراعة في تسويق الباطل، عبر تغليفه برسائل بصرية وسمعية تحاكي العاطفة أكثر مما تخاطب العقل.

في هذا السياق، تبرز أهمية البصيرة كأداة دفاعية أساسية، فالبصيرة ليست فقط ترفًا فكريًّا، بل هي ضرورة وجودية لحماية الذات من الانخداع بالقشور، ومن لا يمتلك قاعدة معرفية متينة، وميزانًا أخلاقيًّا نابعًا من تعاليم الدين والفطرة السليمة، سيكون هدفًا سهلًا لهذا التيار الزائف، وقد عبّر الإمام علي (عليه السلام) عن هذه الحالة بقوله: "وإنما سُميت الشبهة شبهة لأنها تُشبه الحق، فأما أولياء الله فَضِياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى...".

إن مواجهة هذا الانقلاب القيمي لا يكون بردود فعل عاطفية، ولا بحملات أخلاقية موسمية، بل بتأسيس وعي راسخ، وإعادة الاعتبار للمعرفة العميقة التي تمكّن الإنسان من التمييز، وتحصين الأجيال بلغة جديدة قادرة على مخاطبة عصرهم دون أن تتنازل عن الثوابت، ولعل من أهم الحلول العملية، إعادة صياغة الخطاب الثقافي بلغة معاصرة، والاهتمام بالتربية النقدية التي تعلّم الأطفال والشباب كيف يميزون بين الحقيقة والزيف، وتغذية الحس الجمالي الأصيل الذي يربط الجمال بالدين والصدق والنقاء لا بالإثارة السطحية.

في النهاية، لا يمكن لزينة الباطل أن تنطلي على من سلّح قلبه بنور البصيرة، وعقله بأدوات الفهم، وروحه بثقة في أن الجمال الحقيقي لا يكون في المظهر، بل في المعنى، وأن الحق مهما خفت صوته يبقى أقوى من كل الزينة المصنوعة التي تروّج للباطل في أسواق الإعلام الحديث.

نعم
هل اعجبك المقال