لم يكن عليّ في شخصه ظاهرة غريبة على المجتمع الإسلامي في طور نشأته، ولا استشكل على أحد منهم، حتى يستشكل في شخصه على بقية الناس، فمن ولد على الفطرة، وكان مستجيبا في أعماقه لندائها، محققا ما لم يحققه غيره مجتمعين من فضائل، ومن ذلك التحصيل بدأ علي عليه السلام مسيرته الشاقة، في غربة من الأهل والأصحاب، وحسدٌ من الأعراب والأغراب، كلما توفّق في أمر ذو مشقّة وعُسْر، كلّفه به أخوه النبي صلى الله عليه واله به، وقد رسم حاضر الإسلام بسيفه وعقله وجهاده، وقليل من عرف عليا بما تسنّى له عقله من إدراك: (وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلّا ذو حظ عظيم)(1)، فأصحاب الحظ منه قلّة قليلة، شكلوا الجماعة الصالحة، وعمّروا بوجودهم حزب الله على مدى تاريخ الإسلام، سنّة الله في تمحيص خلقه، أيّهم الأقرب إليه والأطوع لإرادته؟ استفتحها أربعة من خيرة من صحب النبي صلى الله عليه وآله، كانوا طوع لبنانه تصديقا لا يشوبه شك، وعملا بنصائحه لا يتخللها تردد، وعُرِفوا بأركان التشيّع له: (سلمان / أبو ذر/ المقداد/ عمار)، وغيرهم من صالحي هذه الأمّة بعد ذلك، جاد بهم الزمان ليكونوا شهداء أبرار، على طريق التعريف بعلي عليه السلام، زمن تحريفات حكم الشجرة الملعونة في القرآن، فعليّ بالنسبة لهم هو الايمان، وعلي هو القرآن، وعلي هو محمّد، ومحمّد هو عليّ.
من قال فيه النبي صلى الله عليه وآله: (يا علي لا يعرفك حق معرفتك إلا الله وأنا)(2)، كيف يمكن لجيل علي عليه السلام وما تلاه، أن يعرفوا عليا ويفهموا حقيقة شخصه المقدّس، حتى على سبيل الإحتمال والظنّ، وهم يحملون بشأنه عدم معرفة وقصور بالغين في تبيّن أمره، مع أن عليا في بعض جوانبه الظاهرة متاح للمعرفة، وعنصر من الصعب أن يخطئ فيه عاقل، خصوصا الجانب المادي له في دلائله، فمن قلع باب خيبر وفتح حصنه، لا يؤخّره عن مقامه سوى جاهل أو متحيّز لباطل، وقد تبيّن أنه نقيض أولئك الذين بذلوا جهودهم وأفنوا أوقاتهم في مغالطة الناس، وتقديم أنفسهم بدائل عن عليّ عليه السلام، وهيهات أن يُقرَن التّراب بالتّبر، وأين علي عليه السلام في عليائه بمن بهتوه وأنكروا حقوقه من بلوغ خصلة من خصاله.
دعونا من النصوص الواردة من النبي صلى الله عليه وآله بشأن عليّ عليه السلام، فقد زاغ عنها من زاغ مغالطة وتأويلا، ونكص من نكص أمامها تضعيفا وتجهيلا، ومع ذلك لم يجدوا لأغلبها صرفا ولا تحويلا، قد خيّروا بالبقاء خارج تأثيرها صمّا بكما وعميانا، فلا نملك لهؤلاء سوى الدعاء لهم بفتح البصيرة وإنارة قلوبهم بجلائها من درن اسقاط حقوق علي عليه السلام، يكفينا هنا أن نستحضر ما جمعه من إنجازات، فهي كافية ليُنظر إليه قائدا ناجحا وباذلا سخيا، في سبيل الله، وهذه الحقيقة عاشها جيل النبي صلى الله عليه وآله بأكمله، قد وصفه الله في وحيه بأنّه نفسُ النبي صلى الله عليه وآله: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)(3) لصيقه في شخصه حياة ومسكنا، شريك له تبليغه، كهارون من موسى عليهما السلام: ( لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك)(4) وجارا له في مسجده، وبابه من دون الناس مفتوح عليه كبابه: ( سدّوا هذه الأبواب إلا باب عليّ) (5)
لقد كان عليّ كتابا مفتوحا، متاحا لكل من تدبّره، فلم يمتنع في ظاهر محتواه عن أحد، سوى من استثنوا أنفسهم، فأبغضوه عن عمد وإصرار (لا يبغضك إلّا منافق) (6)، أسهموا بقسط وافر في تحييد المسلمين عنه، بإنكار متعلّقاته من إنجازات وخصائص، ما أتاح لهم مجال تفضيل من كان مقامهم وحسابهم لا يمثّل شيئا أمامه، حتى بلغ تيه أجيال من المسلمين وضياعهم عنه، أن جهلوه تماما، بعدما سكنت في عقولهم مقالات أعدائه، إذ كيف يعقل أن يسأل عن عليّ وقتها: هل كان علي من أهل بدرا؟ وما بدرُ كلّها إلّا له، بعدما سجّلت صولاته فيها، وقاسم المسلمين فيها قتلى المشركين.
علي هو عروة الله الوثقى التي لا انفصام لها، وهو صراطه المستقيم، الذي ارتضاه من دون بقية السبل ( إهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين انعمت عليهم)، وهو نفسه طريق الهدى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله به إلى عمار بن ياسر( يا عمار إن رأيت عليّا سلك واديا، وسلك الناس واديا، فأسلك مع علي ودع الناس، فإنه لن يدلّك على ردى ولن يخرجك من هدى، يا عمّار طاعة عليّ طاعتي وطاعتي طاعة الله) (7) ولو اجتمع الناس جميعا على أمر لم يكن عليّ فيه، فهو باطل بالتأكيد، ولو انفرد علي في أمر من دون الناس، فهو على الحق دون شك، مصداق قول الصادق الأمين: ( علي مع الحق والحق مع علي) (8) و(عليّ مع القرآن والقرآن مع علي)(9) هو ثِقْلُه حافظا وكاشفا ومعلّما ( إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أله بيتي)(10) حديث الثقلين وحده كاف لبيان أهمّية علي عليه السلام من حيث قيمته التشريعية، ومن تجاهله من الحافظ كالبخاري، فلم يضمّنه في جامع أحاديثه، مع أنه بلغ حدّ التواتر، فمن أجل بقاء منظومة السقيفة مسدول عليها ستر الشورى المزيّفة.
هذه بعض حقائق عليّ الظاهرة، ومن الصعب إدراك أغلبها، أمّا كلّها فمن تمنّيات المتمنّين مهما بلغوا إحاطة بشخصه، أمّا حقائقه الباطنة فهي مجموعة أسرار ونوادر عن طاقات أدرك بعضها من علم شيئا من البواطن، أوحت بمخزون إيماني اشتمل عليه عقل وقلب وروح عليّ، تجسّدت في قوّة خارقة، وصبر على تحمّل الأذى في سبيل الله، ولولا تلك القوة الخفية الضاربة في أعماق عليّ، لما تجاسر من تجاسر بالإدعاء عليه بأنّ ليس بشرا، بل لقد أجزم من أجزم بأنه فوق البشر قدرة ومكانة، ولما بهته خصاله من بهت من الأرذلين خلْقا وخلُقا.
قد يرى من يرى هذه الخصائص مبالغة، ويستكثرها على علي عليه السلام جهلا به، مع أنه لو تمادينا في سرد أخواتها، لما أرست سُفننا عند ساحله، عليّ أعمق غورا من أن يدركه أو يحيط به عقل، لأجل ذلك بقي استثناء في عالمنا، ثقل بخصاله على الجهلة والمنافقين والمشركين فلم يطيقوا حمله في عقولهم ولم تقبله قلوبهم، وقبله فقط ذلك الإنساني بجميع صفاته وعناوينه المعرفية، فلم يتردد في حطّ رحاله برحاب علي عليه السلام، من أمثال الكاتب والشاعر المسيحي جورج جرداق(11)، هام بعليّ فأنطقه عليّ بخصاله الظاهرة، فقال كلمات حق فيه ( عليّ صوت العدالة الإنسانية)، بقيت دالة على أن عليّا عليه السلام يدركه فقط الإنسان العارف به، بفطرته السليمة الغير ملوّثة.
المراجع
1 – سورة فصلت الآية 35
2 – موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة والتاريخ محمد الري شهري ج8ص185 / بصائر الدرجات محمد بن الحسن الصفار القمي ص 125
3 – سورة آل عمران الآية 61
4 – موسوعة الإمام علي بن أبي طالب في الكتاب والسنة والتاريخ ج1ص253
5 – تاريخ البخاري ج1 ص408 / مسند أحمد أول مسند الكوفيين حديث زيد بن أرقم ج32ص41ح19287/
6 – مسلم كتاب الإيمان باب حب الأنصار وعلي من الإيمان ج1ص60ح78 /سنن النسائي كتاب الإيمان ج8ص117ح5022/ سنن ابن ماجة المقدمة باب فضل علي ج1ص131ح114
7 – موسوعة الامام علي في الكتاب والسنة ج1ص494 ح701
8 –مجمع الزوائد ابن حجر الهيثمي ج7ص234ح12027و12031
9 – مستدرك الحاكم كتاب معرفة الصحابة ج3 ح 4605/و4663
10 – مسلم كتاب فضائل الصحابة ج7ص122ح2408/مسند أحمد أول مسند الكوفيين حديث زيد بن أرقم ج32ص10ح19265
11 – الأستاذ جورج جرداق
https://www.haydarya.com/?id=282