يتساءل بعضنا، ممن جعلوا ضمن أولوياتهم متابعة الشؤون السياسية الخاصة ببلدانهم، والتي هي متعلقة بالسياسات الخارجية للدول العربية والإسلامية، عن هذه التحوّلات المفاجأة والمتغيّرة تقريبا 180 درجة، عما كانت عليه من قبلُ، المتسارعة هذه السنة (2023)، وهي ظهرت في شكل تقلبات غير منتظرة، بالسرعة التي حصلت في دولٍ، ليس من السهل أن يقع فيها تغيير سياسي طالت أزمته وتعمّقت آثاره، وقد عوّدنا الساسة العرب، على انتهاج أسلوب التباطئ في تدارك أمرٍ من الأمور مهما كانت قيمته، متعلّق بالسياسة المنتهجة فيه، إلى حدّ تجاهله وتجميد ملفّه، وهذه التغييرات لا يمكن أن تقع عادة دون الإستئناس بمرجعية أمريكا وحلفائها الغربيين، وهي مرجعية حاكمة فيها بالتأثير السياسي والمالي والإقتصادي وفوق ذلك التأثير الدّعائي الإعلامي، الذي يصنع من الحدث الصغير، مستمسكا للتأثير به في الدول الخاضعة له داخليا وخارجيا، وتهويل الأمور في أعيننا أسلوب غربي خبيث، أستعملوه لعرقل مسيرتنا ونمونا الاقتصادي مرارا، ولم نتخلّص من آثاره إلى اليوم.
من كان منّا يتوقّع سرعة عودة العلاقات السعودية الإيرانية؟ بعد توتّر العلاقات بين البلدين وقطعها للمرّة الثانية من الجانب السعودي سنتي 1987 و 2016 (1) لا أعتقد أنّ أحدا كان ينتظر حصول هذه العودة بالسرعة التي حصلت فيها، وكانت العصمة بيكين الصينية مكان إعلانها، وبين هاذين التاريخين تدحرجت هذه العلاقات من سيء إلى أسوأ، وصل حد التقاطع والتّدابر، بخصوص ملفات هامّة عديدة، على رأسها الجانب الأمني العسكري في الخليج الفارسي، وقضايا أخرى استحقاقية دينية كالحج والبقاع المقدسة، وتضرر الشعب الإيراني فيها بفقد أرواح عديدة من جراء سوء إدارتها، ويأتي الملفّ اليمني من ضمنها، وقد تجاذبه الطرفان السعودي بالعدوان على ارضه وشعبه، والطّرف الإيراني بالوقوف إلى جانب هذا الشعب المظلوم في صدّ هذا العدوان الذي طال مداه (سنة 2015)(2)، ولم يعد بالإمكان استمراره، ففيما تريد السعودية بعد تورطها في اليمن، اخضاع اليمنيين إلى إرادة أمريكا ودول الغرب في استباحة أرض ومياه اليمن، والتحكم في مضيق باب المندب وجزيرة سوقطرة، عمل الجانب الإيراني على مناصرة حكومة صنعاء الشعبية للدفاع عن حقوق بلادها، وردّ المعتدين عليه خائبين.
هل بالإمكان القول بأن هناك تحولات سياسية هامة تقع ربيع هذه السنة، من شأنها أن تغيّر من المعادلة الجيوسياسية القائمة في منطقة الخليج الفارسي، بانفكاك ارتباط السعودية المصيري بأمريكا، وتخلّيها عن سياساتها العدوانية تجاه إيران واليمن؟ هل هي قناعة حصلت ظرفيا جاءت بتأثير الرئيس الصيني؟ أم هي ردّة فعل بقيت كامنة في نفس الملك سلمان وابنه محمد ولي العهد (الحاكم الفعلي)، ظهرت في وقتها المناسب، من سوء تصرّف الإدارة الامريكية السابقة واللاحقة بخصوص السعودية، على اعتبارها في نظر السياسة الخارجية الأمريكية بقرة حلوب، متى ما جف حليبها وجب ذبحها (3)؟
لكنّه بالإمكان القول بعد الذي حصل، أنّ هذا التحوّل السياسي الهامّ من الجانب السعودي، جاء بإرادة وقناعة من حكام المملكة أنفسهم، بأنّه آن الأوان لتغيير سياسة التبعية لأمريكا، بعدما تبيّن لهم وقاحتها في الإستخفاف بهم، إلى درجة الإهانة التي تلفظ وتجرأ بها الرئيس الأمريكي السابق ترامب، والذي جرى هذه السنة وسيتواصل، هي ردّة فعل قويّة صدرت، ستكلّف الأمريكيين مستقبلا غاليا، والتحوّل السعودي المفاجئ هذه السنة، قلب موازين القوى رأسا على عقب، لينفتح النظام السعودي على الصين الشعبية، بعما كان منغلقا على تبيّته لأمريكا، يُعْتَبر ضربة قاسية للسياسة الأمريكية، وفشلا ذريعا لها، بأظهر سوء تعاملها مع حليف استراتيجي هامّ، كان يُعْتبر بالمقياس والتقييم الأمريكي الأرعن أعمى البصر، نجحت الصين في إعادة بصاره واقناعه بأن مصلحته تكمن في القطع مع سياساتها السابقة المتمالئة مع دول لا تريد لها الخير، وتريد فقط استغلالها واستنزاف مقدّراتها.
هذا النجاح الصيني الباهر بحق، لا يجب أن يحجب عنا المساعي الحميدة، التي بذلتها سلطنة عُمَان طوال سنوات، من أجل إطفاء نائرة السّوء التي تعلّقت بالعلاقات السعودية الإيرانية، دون أن ننسى أيضا أناة أيران وحكمتها، وطول صبرها على ما لحقها من أضرار بالغة، خصوصا في مواسم الحج التي خلفت ضحايا بالمئات من الإيرانيين، لا ذنب لهم سنة 1987 وما بعدها، سوى أنهم مسلمون مناصرون للقضية الفلسطينية والقدس، وصِدْق نداءاتهم وشعاراتهم التي رفعوها قبل بدء موسم الحج لتلك السنة، منادية بالبراءة من أعداء الإسلام والمسلمين، وهو ما أثار حفيظة أمريكا والكيان الصهيوني ودول الغرب الحليفة لهما، فأوعزوا للأمن السعودي بضرب المسيرة يوم التروية بكل قوّة وشدّة، ما أسفرت تلك الإعتداءات على الحجاج الأبرياء الآمنين، من سقوط ضحايا كثُرٌ، سالت دماؤهم حول الحرم المكي، وهم يحملون مجسّم قبة الصخرة وأعلام فلسطين، ولافتات البراءة من أمريكا رمز الاستكبار والشيطنة في العالم، مع لقيطه الكيان الصهيوني.
على أيّة حال يوافقنا كل مسلم مؤمن، بأن العلاقات بين المسلمين على مستوى الأفراد والشعوب والدول، يجب أن تكون ضمن أدبيات الإسلام، ولا تحيد عنه تحت أي ظرف، نثمّن هذه العودة التي نعتبرها ضرورية وفي مصلحة جميع المسلمين وخدمة لقضاياهم العالقة ومستقبلهم الواعد بكل خير، ونريد بحق طي صفحة الماضي بما فيها، لكن مع توضيح ملابسات وقائعها، والإعتذار الصادق عما حصل من أخطاء وتجاوزات، من أجل بناء جديد قوامه الثقة المتبادلة، وأساسها تفعيل رابطة الأخوّة الإسلامية بين النظامين والدولتين والشعبين.
كل من تابع المواقف الرسمية الإيرانية، أيقن بحكمة وصواب سياساتها الداخلية والخارجية، فقد وقفت إلى جانب القضية الفلسطينية، منذ أول انتصار ثورتها وقيام نظامها، وهي على نفس فكرة والقناعة بأنها قضية إسلامية يجب أن تُعالَج بالقوّة وليس بالمفاوضات، وقد اعدّت خططها لأجل ذلك، فإيران مناصرة ليس للقضايا الإسلامية فقط، بل وقضايا الدول والشعوب المستضعفة في العالم، وهذه المواقف كلّفت إيران كثيرا من المتاعب والعقوبات، من أجل ثنيها عن ذلك، لكنها بقيت على عهدها صامدة مقاومة وناجحة في كل ذلك.
في هذا العصر إطار تعدّد الأقطاب والقوى الفاعلة في عالمنا، حيث لم يعد هناك مجال لبقاء العالم تحت غطرسة وسيطرة قطب واحد، طالما عبث بمصالح دول العالم، وبمنتهى الأنانية عمل على فرض سياسة هيمنة مطلقة على دول الخليج، من أجل تسخيرها لتنفيذ سياساته المنحرفة، تجاه دول المنطقة كإيران واليمن، ويبدو أن دور الصين في انهاء التسلط الأمريكي على العالم، سيكون هاما وكبيرا، بعد هذا النجاح الذي حققه الرئيس الصيني في عاصمة بلاده بيكين.