البحث المتقدم

البحث المتقدم

عندما يكون المولد النبوي مقدّمة وحدة الأمّة

0 تقييم المقال

 

هل يُعْقلُ أن يدبّ الإختلاف بين المسلمين سريعا بمجرّد وفاة النبي صلى الله عليه وآله؟ ثم يتعمّق ويستفحل ذلك الخلاف إلى درجة التفسيق والعداء والتكفير واستحلال المحرم بينهم؟ وما نشأ قديما استمرّ على حاله من التّباعد والنّفرة في زماننا هذا ومن غير الوارد أن يُعَالج بما يستوجبه من أدب الحوار في كتاب الله العزيز، وسيرة صاحبه سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، في فض النزاعات وحلّ المشكلات الطارئة.

ففيما يخص كتاب الله - وهي رسالته الخاتمة الى الثقلين من خلقه - لم نجد فيه ما من شأنه أن يدفع المسلمين إلى انتهاج سبيل التطرّف، بل وجدنا فيه مجالا للتسامح والتماس العذر، والحوار المتكافئ مع أعداء الدين، فضلا عن الذين قالوا بأنهم مسلمون ونطقوا بالشهادتين، وأجروا في حياتهم أحكام الإسلام، مجرى الالتزام والتطبيق، مما أثبت انتماءهم إلى الإسلام قولا وفعلا، وهذا يدحض أي ادّعاء يتعارض مع اعتقادهم أو يشكك فيه، من طرف الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

والمسائل الخلافية الواقعة بطبيعتها بين الفرق الإسلامية، نشأت بتحريض من حكام نسبوا أنفسهم على الإسلام نسبة ادّعاء، تبين من خلال ما جاءنا من تاريخ دولهم، انهم لا يملكون منه سوى اسمه، مارسوا خلاله أهواءهم ممارسة مالك، يحق له أن يفعل فيه ما يشاء، فخالفوا كثيرا من الأحكام، وطمسوا حقائق بديهية متعلقة به، كان غايتهم منها إبعاد المسلمين عن منهج إسلامي واحد، مثّل كابوسا مخيفا، بقي مسلطا عليهم كالقدر الذي لا مفر لهم منه، وهو كمنهج أهل البيت عليهم السلام، سبيل الإسلام المحمدي الوحيد الذي فيه منجاة من اتبعه، صراط الذين أنعم عليهم، بأن أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ثقل كتاب الله وحفاظه وخزّان علومه وشارحي احكامه، ودعاة الله إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن عرفهم واتبع نهجهم عرف من الإسلام غايته وأهدافه، ومن جهلهم تباعدت به اهواء المنحرفين عنهم، فضلّ سبيلهم القويم وتنكب عن صراطهم المستقيم.     

ولم يبتلى الدين وأهله، بمثل ما ابتلي من تحريف طال جوانب كثيرة من اساسياته، مخالفة لمن جعلهم الله أبوابه والدعاة اليه من بعد نبيّه الأكرم، وهم من يمتلكون ناصية الحقيقة، ولو ان الامة تبينت مكانتهم وعرفت حقائقهم، وما استودعهم الله فيهم من الدين، لما اختلف فيهم اثنان من المسلمين، - ولكانت لُحمتهم بهم أمسّك وأكثر ألفة - على آثارهم مضى المبصرون، ومنهم استمدّ من جوهر الدين موثقا لا يضل من تمسك بحبله المتين وصراطه المستقيم.

في ذكرى ولادة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله نلتقي، لتستجمع شتات ما حاول المبطلون زحزحته من طريق معرفتنا الصحيحة به، بما تضمّنته من تواريخ أساسية وأحداث مصيرية، كان لها الأثر البالغ في تشكيل مصورة حقيقية للإسلام المحمدي، مغايرة لما كان ينشره أعداء أئمة الهدى عليهم السلام، حتى تلك التي كانت لا تشكل خطرا عليهم، مثل تاريخ مولد سيد البشر صلى الله عليه وآله، وربّ ضارة نافعة كما يقال، وهذا التحريف كان سببا من أسباب انارة الطريق لمن دقق البحث، وأمعن النظر فيما قيل بشأنه، ومن أدرى من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله  - لو عادت إليهم الأمّة العاقّة  لهم - بتاريخ ميلاد سيدهم الأكبر؟

لم يجتمع المسلمون على تحديد يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وآله، فقد افترق في تاريخه فريقان أساسيان: الأول قال بانه حصل يوم 12 من ربيع الأول، والثاني قال انه وقع يوم 17 من الشهر نفسه، بما فصل التاريخين بخمسة أيام، وجاء اعتماد أغلبهم على التاريخ الأول نظرا لتعدد رواياته من الفريقين، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنّه تاريخ أقرب إلى الصحة من التاريخ الثاني، الذي تميّز بأنّ مصدره أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، الذين هم واقعا أدرى ببيت الطّهر وما فيه، وكان على المسلمين أخذه بعين الاعتبار مهما بلغ التاريخ الأول من التعداد الروائي، فهذا الإمام الصادق عليه السلام اخبرنا بان يوم مولده 17 ربيع الأول، متوافقا مع تاريخ ميلاد جده النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، بما لا يدع مجالا للشك في مصداقيته، فمنطقيا يرجح كل عاقل التاريخ الذي أعلنه أهل البيت عليهم السلام، ومصادرهم أوثق من مصادر غيرهم باعتبارهم الأدرى به.

وفيما ذهبت روايات أخرى تبنّاها أصحابها إلى أنّه صلى الله عليه وآله ولد يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول عام الفيل، يوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر أبريل سنة 571م حسبما حققه العالم الكبير والمحقق الفلكي محمود باشا.، ويوعز المترددون في تاريخ ولادته إلى أنّ  العرب كانوا يؤرخون مناسباتهم بالحوادث الكبرى، ولم يكونوا يسجلون تاريخها، وما اعتبروه صحيحا من كونه ولد يوم الاثنين 12 ربيع الأول عام حادثة الفيل، دون أي اعتبار لتاريخ 17 ربيع الأول، لكونه مصدرا غير مقبول عندهم، على أساس سياسيّ سلطوي، رافض الأخذ به من منطلق عداء سافر، لا يمكن قبوله في هذا الزمن الذي خلا من المانعين.

إذا نحن أمام جملة من المعضلات، حفّت بشخص أفضل مخلوقات الله سبحانه، بدء بتاريخ مولده الشريف، إلى غاية آخر يوم من حياته التي قضاها مكافحا، داعيا الى ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، لم يألو جهدا فيما قام به من أعمال جليلة، وقدّمه من تضحيات جسام، امتثالا لأمره في حسن التبليغ وتمام أدائه لأهله، وسيرته العطرة النقيّة كانت مثالا للإنسان الكامل، الذي جسّده طوال حياته الشريفة، وليس الأمر متعلق فقط ببعثته، بل شكل طوال حياته جملة من القيم والأخلاق العالية، التي عظّمها الله سبحانه في كتابه بقوله: ( وانك لعلى خلق عظيم)(1) لم القرشيون بدّا من تلقيبه بالصادق الأمين، وفيه هذا بيان وإقرار منهم لم يجدوا بدّا من الإصداع به، رغم تلكؤهم في قبول بعثته اليهم.

استعراضنا للصحيح من سيرة سيد الأنبياء والمرسلين عليه وعلى آله الصلاة والسلام، يبدأ من تاريخ مولده، الى ختام حياته المليئة بالأحداث الجسام، وتصحيح فترة من أحرج الفترات أهمية أشدها حساسية من تاريخنا الإسلامي، يمكن أن يجعلنا نراجع تفاصيلها الدقيقة، من خلال العودة إلى المصادر المنبوذة  - وان كان ذلك النبذ غير مبرر اطلاقا - بحكم أنظمة ظالمة، أسهمت من جهتها في رفع رصيد التحريف الواقع في تراثنا، بمغالطات أحدثوها باعتماد مصادر تنكّبت عن منهج اهل البيت عليهم السلام، معتبرة إياه مخالفا ومعاديا لمنهج حكم عباسي، خرج من تحت سلطانه فقهاء ومحدثون، اعتمدوا رأي السلطان أساسا لنيل حظوته وبلوغ رضاه، وهذا أحد أهمّ أسباب الخلاف والفرقة التي ألمّت بالأمة الإسلامية، وجزّأتها إلى فرق وطرائق متناحرة فيما بينها، بما لا يستوجب ذلك لو وجد عقلاء فهموا أسباب الخلاف وعالجوا دواعيه بكل هدوء.

أحد أكبر وأهمّ فقهاء العصر الحديث رجل من قوم سلمان الحمدي، كان له رأي راجح ونافع للأمة، في معالجة قضيّة مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، اهتدى فيه إلى اتخاذ التاريخين ( 12و17 ربيع الأول)، سبيلا مفضيا إلى مقدّمة سانحة لتوحيد الأمّة الإسلامية، وجه فيه دعوته المباركة إلى اعتماد التاريخين المذكورين أسبوعا للوحدة الإسلامية، وذهب ابعد من ذلك عمليا، بإقامة مؤتمرات أئمة الجمعة والجماعة، وجّهت في الدعوات الى شخصيات إسلامية من مختلف البلدان لحضور فعاليات الأسبوع السنوية في طهران، وقد نجح الامام الخميني في ربئ الصدع وتقريب وجهات النظر الإسلامية، لكن أعداء الامة من مشركين ومنافقين أبوا غير ذلك، فكادوا للمشروع الوحدوي بالدعايات الباطلة والاكاذيب المغرضة، فتعطّل مسار التقريب لسنوات وعاد من جديد تحت عنوان مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، وهو اليوم يتقدّم بخطى ثابتة وان كانت بطيئة مقارنة بالتحديات التي تعترض المشروع التأليفي.

اننا أمام ما يحيكه أعداء الإسلام من مؤامرات خطيرة، مطالبون بالالتزام بوصيّة النبي صلى الله عليه وآله، بالتمسّك بالثقلين من كتاب الله وعترة نبيّه صلى الله عليه وآله، كمصدرين أساسيين في فهم احكام الدين واستيعاب آدابه والالتزام بسننه، ولو أن الأمّة التفتت وفهمت معنى وصيّة النبي صلى الله عليه وآله العاصمة من الضلال، لما انحرفت عن جادة الصراط المستقيم، صراط الذين انعم الله عليهم بأن اصطفاهم على خلقه، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ليكونوا منارات هدى منقذة من الضلال، هادية إلى رضوان الله تعالى، وعندما يكون تاريخ المولد النبوي مقدّمة لوحدة الأمّة يجب أن نسعى إلى تحقيق مزيد من الألفة، وبها نأمل خيرا في تحقيق ذلك الواجب الذي لا مفرّ منه.  

المراجع

1 – سورة القلم الآية 4

نعم
هل اعجبك المقال