البحث المتقدم

البحث المتقدم

الّدور على السودان اليوم فعلى من يأتي الدور القادم؟

51 تقييم المقال

تاريخ السودان المعاصر مليء بالأحداث والهزات، لم يخلص شعبه من وقعة حتى وجد نفسه في رحى أخرى تطحنه، منذ استقلاله إلى اليوم، نتيجة عوامل تظافرت لتشكل في مجموعها عوائق مستدامة، كفيلة بعدم استقرار أوضاعه، ويبدو الأمل في علاجها ضئيل، وفي مقدّمتها عقلية الشعب القبلية وتحالفاته، بقيادة نخبة مثقفة من السودانيين، تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية، في انفراط اجتماع عامة شعبهم على خير - رغم طيبته - من انهيار كامل للدولة والبلاد بلغهما السودان اليوم بصورة تدعو لليأس من تحسن حال بعيد المنال.

 

ما يجب ذكره هنا، أن الدّاء الخفي الذي نخر تماسك السودان، هو التمييز العرقي والعنصري الذي دخل في تقاليد قبائل الشمال والوسط، تعتبر نفسها عربية أصيلة، ولها خاصية الإمتياز على بقية المكونات العرقية للسودان، حتى ترسخت فيهم عقلية اعتبار الجنوبيين عبيدا لهم، ما أتاح فرصة للغرب لاستغلاله دينيا وسياسيا، ليفصلوا الجنوب عن هيكله الأمّ السودان الكبير، ولم تكتفي أمريكا ودول الغرب بذلك، فذهبت إلى زيادة تقسيم السودان، وانهاكه بتبديد موارده الطبيعية، بالعمل على فصل إقليم دارفور، وهم في طريق تحقيق ذلك.

 

وخطأ السودان الثاني، اعتماد سلطاته على الجيش منذ استقلاله، وكان ضباطه اللاعبون الكبار في تأزيم الأوضاع في البلاد، ومنه خرجت انقلابات متعددة تربو على ستة، نفذها قادة عسكريون، بداية من سنة 1958، فانقلاب سنة 1969، فسنة 1971، فسنة 1985، فسنة 1989(1)، ولم يُجانِب الخريف العربي السودان، فدخلها محاولا فعل شيء، فكانت بدايته بإعلان استقلال جنوب السودان سنة 2011، بعد حربين كبيرتين، سنتي 1962 وسنة 1983، بين الجيش السوداني من جهة، وحركتي أنانيا في الحرب الإنفصالية الأولى، وحركة التمرّد التي قادها (جون قرنق) في الحرب الثانية(2).

 

وقبل أن تطيح كرورنا بحركة البشر في دول العالم، أطاح انقلاب عسكري بالرئيس السوداني المنقلب بدوره عمر البشير (3)، دبّره له مقربون منه في الجيش، وقوات الدعم السريع الغير نظامية، بتاريخ 10/4/2019، وكان انقلابا ظاهره إصلاح ما أفسده السابقون، وتبدو الأيدي الإماراتية واضحة في تدبيره خدمة للمصالح الأمريكية، ومقابل خدمات هاذين القائدين في اليمن، دعما لمشروعها في السيطرة على البلدين معا، وهما عصفورين بحجر واحد.

 

ولا يمكن أن يحصل ذلك، دون موافقة أمريكا والغرب، الذي يريد إزاحة البشير بعد إدانته من طرف محكمة العدل الدولية (بلاهاي/ هولندا) وإصدار مذكرة توقيف بشأنه واثنين من معاونيه سنة 2009، على خلفية ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، خلال النزاع المسلح في إقليم دارفور سنة 2003، قتل خلاله أكثر من 300 إلف شخص، ويسعى بوسائله وطرقه الملتوية للقبض عليه، وتسليمه للمحكمة الدولية ولا تبدو الحكومة السودانية ممانعة في ذلك. (4)

 

رئيس وزراء السودان بعد الإنقلاب على البشير عبد الله حمدوك(5) عبر عن قلقه من حالة التخبّط التي وصلتها السلطة هناك، وحمدوك نفسه سقط من حسابات الشعب السوداني، بقبوله نصف الحل من العسكر، بتعيينه رئيس وزراء، بينما ترى الجماهير، وقد دفعت ثمنا باهظا من دماء أبنائها في احتجاجاتها، من أجل حكم مدنيّ بعيد عن العسكر، تولى حمدوك السلطة بتاريخ 2019 ثم استقال من المنصب في بداية 2022، نتيجة مماطلة العسكر، وعدم وفائهم بتسليم السلطة للمدنيين، اكتشف خلالها أنه مجرّد دمية في مشهد سياسي، يتلاعب به البرهان وحليفه المتأرجح حمديتي.

 

لم يبقى السودانيون مكتوفي الأيدي، فقد عبروا عن معارضتهم لاستمرار بقاء السلطة بيد الجيش، فبعد تعدّد المظاهرات المنددة بحكم العسكر، وبركة الدماء المظلومة التي سالت فيها، حصل تباين كبير بين الحليفين (عبد الفتاح البرهان) و(محمد حمدان دقلو) المعروف باسم (حميدتي)، واللذين يمثلان أبرز كيانين عسكريين في البلاد، هما الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، هاذين القائدين دفعا بقواتهما إلى صراع نفوذ للسيطرة على السودان بالقوة، ولا مصلحة للسودان فيما حصل من تناحر عبثي، أيقظ السودانيين يوم السبت 15 أبريل 2023، على وقع اشتباكات عنيفة، دارت رحاها بشكل أساسي في الخرطوم، وأنحاء أخرى من البلاد. (6)

 

خلال كل السنوات الماضية، بقي السودان يعاني من أزمات اقتصادية حادّة، رغم إمكاناته الزراعية الواسعة الواعدة، التي منحها إياه نهر النيل، فضلا عن تربية أنواع الماشية، ومع ذلك لم يتحسن وضع السودانيين، وجاء انفصال جنوب السودان عن أصله، ليُذهب بنسبة 75% من نفط البلاد خارج ملكيّته ما عمّق معاناته، ولم يبقى للسودان سوى 25% منه، وظهر الذهب بعد ذلك في مواقع منجمية، استغلته ميليشيات هلال قائد (حميدتي) الأول، قبل أن يغدر به، ويستولي هو على القوات والمناجم معا، وقد بلغت مبيعات الذهب السوداني سنة 2017 40% من صادرات البلاد، وكان (حميدتي) حريصا على وضعها تحت يده(7)

 

وكان (البشير) أضفى شرعية على هذه الميليشيا، بتسميتها "قوات الدعم السريع"، وفق مرسوم رئاسي أصدره في عام 2013، وكان قوامها الأساسي مكونا من 5000 عنصر، كانوا مسلحين ونشطين قبل ذلك بوقت طويل، وبذلك أصبحت قوات الدعم السريع مسؤولة أمام البشير نفسه، وقد أعطى البشير لحميدتي لقب "حمايتي"، بمعنى "الذي يحميني".

 

وشاركت قوات الدعم السريع في عدد من النزاعات الإقليمية، ومن أبرزها دورها في القتال ضمن قوات التحالف العدواني، بقيادة السعودية في جنوب اليمن، وعلى طول سهل تهامة - الذي يشمل مدينة الحديدة الساحلية، كما وفّر حميدتي وحدات للمساعدة في حراسة الحدود السعودية مع اليمن، وأشارت تقارير إلى أن عدد "قوات الدعم السريع" التي يقودها (حميدتي)، تجاوز ال 40 ألف شخص في عام 2019.

 

وفيما تستمرّ أمريكا وحلفاؤها من قوى الغرب المتصهين بالأصالة، ومعها الأنظمة العربية المتصهينة بالتبعيّة، في مسلسل العبث بدولنا ومقدّرات شعوبنا، فتتساقط رموز خيانة والأوطان بيدقا تلو الآخر، والله يُمْهِلُ ولا يُهْمِلُ، والحساب يبدأ من الدّنيا، لكن من طغى امتدّ به سوء عمله، فأنساه حتى نفسه، قد يكون ما يحصل في السودان عقوبة، على اقترفت قواته من جرائم بحقّ الشعب اليمني، فضلا عن جرائمها بحق الشعب السوداني؟ أنا أعتقد أن عدل الله قريب من دعوات المظلومين في اليمن، وستطال تلك الدّعوات كل من أسهم في تدمير بلادهم، وقتل أطفالهم ونسائهم وشيوخهم ورجالهم، وهذا الدّور قد حلّ بالسودان، ولا شماتة في كل من أجرم بحق أشقائه وتواطئ مع أعدائه، فعلى من سيأتي الدور القادم يا ترى والمتورطون كثُرٌ ؟ الأيام كفيلة بإظهارهم والقصاص منهم.

نعم
هل اعجبك المقال