قيل: إن المجتمعات تنهض بعلمائها ومثقفيها كونهم يمتلكون الرؤى الواسعة لما هو أفضل وأنجع للمجتمع والوطن، فضلا عن أن لهم القدرة العقلية على احتواء الأزمات ومحاولة إبداء الحلول لها، عبر التفكير والتحليل وتقديم المشورة.
فضلا عن أنهم الشريحة التي ترسم حياة هادئة مبنية على أسس من المنطق والتفاهم والتوازن، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، بالقول والفعل والتعامل، لذا فإنك تجد المثقف أو العالم يتعامل مع الآخرين بنوع من الهدوء والسكينة والمنطق، في قوله وفعله وسلوكه.
في وقتنا الحاضر أصبحت شريحة المثقفين تعاني من الصراع فيما بينها؛ لأن هذه الشريحة متكونة من عدة أفراد وكل فرد يحمل رؤية معينة، وبالأحرى هو ليس لديه رؤية وإنما هو يحمل فكرة استقاها من مجتمع معين، ويحاول الدفاع عنها وفرضها على المجتمع، ويأتي آخر يطرح فكرة أخرى، وآخر أيضا، وبتالي تجد أن الصراع بينهم محتدم؛ لأن كل واحد منهم يحاول فرض فكرته ونعت فكرة الآخر بالهزيلة أو غير المجدية، مع غياب لفكرة (سماع الآخر وتقبل الآخر).
لذا فإن الممعن النظر لهذه الشريحة يجدها في الحقيقة ليست شريحة مثقفين أبدًا بل شريحة من (الببغاوات) ليس إلا، إذ ليس كل من قرأ مجموعة من الكتب أصبح مثقفًا، وليس من حمل الشهادة الجامعية صار مثقفًا، وليس من كتب عمودين في جريدة أصبح مثقفًا وليس من كتب بيتًا من الشعر هو مثقف، المثقف الذي وصفت لك في الأسطر السابقة، المفكر والمحلل والواجد للحلول، الهادئ، المتعاطي مع الآخر والسامع له، والمتقبل لفكرته.
فما نجده اليوم هم أبواق ليس إلا، يحاولون إبراز أنفسهم على أنهم مثقفين عبر شبكات التواصل الاجتماعي سواء عبر اللقاءات، أو عبر الكتابة، ومن ثم التشدق بالكلام المنمق واللغة الفصحى العالية المستوى حتى يقال عنه: (والله خوش يسولف)، أو يبرز نفسه عبر الكلام باقتباسات قالها علماء وكتاب وفلاسفة، وهذا كله لا يغني ولا يسمن، لأنهم لم يقدموا الحلول ولا يسمعون الآخر ولا يتقبلون الفكر الآخر بل وينعتونه بالتخلف والرجعية إذا ما تصادم مع ما يحملونه من فكر.
نعم الدفاع عن الفكرة حقّ مشروع ولكن تسقيط الفكر الآخر دون محاورته أو نقده أو التحدث مع هذا عيب على المثقف الواعي.
لذا فعملية تقبل الآخر في الوقت الحالي أمر صعب، حتى المثقف الحقيقي عندما يستمع لغيره يستمع إليه على مضض، فالمثقف الحقيقي بعد أن كان رائد المجالس، أصبح منزويًا، ومغمورًا، بسبب التشوّه الموجود في المجتمع، وبسبب انتشار المستثقفين، الذين لا يدعون للمثقف الحقيقي فرصة التقاط أنفاسه أو طرح ما يريد؛ لأنه سوف يعرّيهم، ويعرّي ثقافتهم الهزيلة، ويكشف عن مدى نزولهم إلى مستوى من (التبغبغ) الذي ينمّ عن غسيل للأدمغة بغية الوصول عن طريقهم إلى تحقيق مآرب معينة في المجتمع.