البحث المتقدم

البحث المتقدم

دولة الحسين عليه السلام.. وشعبها في كل مكان وعاصمتها كربلاء

1 تقييم المقال

 

بسم الله الرحمن الرحيم

"وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا"[1]...

هكذا نزلت الآية لتخبرنا أن البشر مختلفون في أصولهم وجغرافيتهم، لكن يمكن أن يتوحّدوا إذا اجتمعوا على قضية أسمى من الحدود والمصالح، وبينما تتناحر الأمم وتتفكك المجتمعات وتتشظى الهويات، هناك أمة تنبع من قلب الحزن، وتنهض من بين تراب المذبحة، أمة لا تُرى على الخرائط، لكنها حاضرة في القلوب، دولة الإمام الحسين عليه السلام... وشعبها في كل مكان وعاصمتها كربلاء.

في كل عام وقبل يوم الأربعين، تمشي هذه الأمة على الأقدام، ملايين الزوار من إيران، من لبنان، من الخليج، من باكستان والهند وأذربيجان، من أوروبا وأفريقيا، يتركون كل شيء خلفهم ويسيرون باتجاه كربلاء، لا نحو قصر ولا نحو زعيم سياسي، بل نحو قبر ثائر استشهد قبل 1400 سنة، لكنه لا يزال يلهمهم الحياة، هم لا يعرفون بعضهم بعضًا، لا يتكلمون اللغة نفسها، لا يحملون الجواز نفسه، لكنهم جميعًا يعرفون "من هو الإمام الحسين عليه السلام "، وجميعهم يشعرون أن كربلاء هي بيتهم.

ما يحدث في العراق خلال هذه الأيام لا يشبه أي شيء في هذا العالم، الناس تفتح أبوابها لأناس لا تعرفهم، تطبخ لهم، وتخدمهم، بل وتحسب أن خدمتهم شرف لا يُقابَل بثمن، الكل يُطعم الكل، والكل يبيت عند الكل، فلا طبقات ولا جنسيات ولا حسابات... فقط راية واحدة مكتوبٌ عليها "يا حسين".

 إنها لحظة انفصال عن منطق العالم المادي، ودخول إلى كيان وجداني روحي يُلغي القومية، ويكسر الحدود، ويجمع الناس حول مظلومية واحدة وشهادة واحدة.

في هذه اللحظة، لا يوجد رئيس ولا وزارات ولا مؤسسات، لكن التنظيم أعظم مما تتصوره، الأمان حاضر و لا توجد منظمات أو شركات رسمية تقود الحشود، لكن كل عين تدمع وكل قدم تمشي، كأنها تُدير حملة جماعية موحّدة هدفها كربلاء، إنها دولة بلا قوانين مكتوبة، لكن لها قانون في القلوب: "هيهات من الذلة" إنها دولة لا جواز لها، لكن فيها تأشيرة واحدة... دمعة على الإمام الحسين (ع).

هذه الأمة تستمد هويتها من الدمعة، والدم، والولاء، والموقف، كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "إن لقتل جدي حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدًا"[2]، وهذه الحرارة لم تعد شعورًا فرديًا، بل صارت وطنًا شعوريًا كبيرًا، يعيش فيه الشيعي من أي بلدٍ كان، إذا كان ولاؤه للإمام الحسين (ع) ولا غرابة أن ترى زائرًا من السعودية أو من البحرين أو من الكويت، يقبّل تراب كربلاء ويبكي كأنه عاد إلى حضنٍ افتقده طويلًا، ولا غرابة أن ترى عراقيًا يطهو لزائرين لا يعرف أسماءهم، لكنه يعرف أنهم "ضيوف الحسين".

لقد تحوّلت كربلاء إلى عاصمة شعورية لهذه الأمة، عاصمة بلا جدران، لكن بأسوار من العاطفة والولاء، تحميها صدور العشاق وخدمة الزوار، إنها القلب الذي ينبض بهوية لا يعترف بها العالم سياسيًا، لكنها تحكم القلوب بإجماع فريد لا تُحققه دساتير.

عاصمة كل من قال: "لبيك يا حسين"، وأدار ظهره للراحة من أجل أن يمشي على درب الشهادة هذه ليست عاصمة تراب فقط، بل عاصمة المعنى، والموقف، والصبر، والإيمان.

هذه الأمة ليست بحاجة إلى إعلان سياسي؛ لأنها أعلنت ولاءها منذ قرون في كربلاء، وهي ليست بحاجة إلى هيئة أمم، لأنها تحت راية الأمام الحسين تذوب فيها كل الفروقات دينيًا، اجتماعيًا، روحيًا، وحتى سياسيًا، وتُشكل هذه الأمة كتلة هائلة من القوة، تحرّك العالم من دون أن تطلق رصاصة واحدة، وتثير رعب الطغاة؛ لأنها تقوم على شيء لا يمكن قمعه: الإيمان بالحق، والاستعداد للتضحية.

أمة الحسين... لا تموت كلما حاولوا إخفاءها، خرجت بمسيرة أطول كلما ضيّقوا عليها، وسّعها الحب وكلما تجاهلوها زلزلت الأرض بخطوات زوّارها هي أمة من نوع آخر، لا تُحكم بالحدود، بل تُحكم بالدمع والولاء والخدمة، ولهذا لا عجب أن تكون كربلاء عاصمتها... لا لأن فيها ضريحًا، بل لأن فيها سرًّا حيًّا، لا يزال كل عام يُحيي قلوبًا ويُشعل أمة.

نعم، هذه هي دولة الأمام الحسين، وشعبها في كل مكان، وعاصمتها كربلاء.

 


[1] الحجرات:13

[2] مستدرك وسائل الشيعة : 10 / 318 .

نعم
هل اعجبك المقال