مواقف الشعراء الخالدة في نصرة الدين -وقفة مع الفرزدق والدروس النافعة-
كثيرةٌ هي الأصوات التي ترتفع مع اقتراب زيارة الأربعين، تصدر الأحكام على الزائرين في طرق المشاية، وتُحلل نواياهم من خلف الشاشات، أو بمجرد نظرة عابرة (معقولة كلهم يحبون الحسين؟، وين كانوا هذوله طول السنة؟، هذا مو إيمان... هذا رياء!) وكأن السير إلى الأمام الحسين مشروط بشهادة حسن سلوك، وكأن الطريق إلى كربلاء لا يُفتح إلا للملائكة والطاهرين!
لكن من قال إن الأمام الحسين عليه السلام يريد الكاملين فقط؟ ألم يكن هو من بسط كفيه في يوم عاشوراء وقال: (ألا من ناصرٍ ينصرنا؟) فجاءه من كان في معسكر العدو، من كان في طريق الضلال، ووقف بين يديه مضطربًا خجلًا، يقول: (جعلني الله فداك يا ابن رسول الله، أنا الذي صدّيتك، أفلي من توبة؟) فابتسم الحسين، وقال له: (نعم، تُب فتاب الله عليك، فأنت الحُر كما سمتك أمك، حرٌ في الدنيا والآخرة).
الأمام الحسين عليه السلام لم يُغلق الباب في وجه أحد، فكيف نغلقه نحن اليوم؟ كيف نتجرأ على تقليص عطاء الحسين عليه السلام على من نظنه (ملتزمًا) فقط؟ بل إن ما يُميّز الإمام عليه السلام هو أنه بابٌه مفتوح للتائبين والضائعين قبل الكاملين، فهل ننسى أن الله قال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[1]، ولم يقل: يحبّ الطاهرين فقط بل التوّابين، أي الذين يُخطئون ثم يرجعون.
إن الطريق إلى كربلاء ليس خاصًا بالصالحين، بل هو مساحة مفتوحة للعائدين، للذين يُصلحون نواياهم مع كل خطوة، ولمن يرجون الله في كل دمعة، ولمن لم يجدوا بابًا يُشبه هذا الباب.
من قال إن كل من يمشي إلى الإمام الحسين عليه السلام صالحا؟ هناك من يأتيه من الخطأ، من الغفلة، من الوجع، من الندم، من الضياع... لكنه يأتي حتمًا إلى ضريح الأمام الحسين عليه السلام.
وفي طريق الأربعين، لا تُقاس النوايا بالمظاهر، ولا تُوزَن الأرواح بالمشي فقط، ولكن لكلّ خطوة قصة، يروي أحد خدام المواكب: (كنت أوزّع الطعام على الزائرين، فمرّ شاب يبدو عليه التعب والفقر، ناولته صحنًا من الطعام، فنظر إليّ والدموع في عينيه وقال: (أنا ما متعود أحد يعطيني شيء بدون مقابل... شنو سويت حتى أستحق هذا؟) ثم نظر إلى السماء وقال: (شكرًا يا حسين)، ومضى وسط الزحام).
ربما لم تكن تلك الهدية البسيطة هي التي غيّرته، بل الشعور العميق بأنه ما زال مقبولًا، أنه ما زال له مكان عند من قُتل من أجل الناس، من أجل المظلومين، من أجل أن تبقى للكرامة طريق.
وقد قال النبي محمد ﷺ: (كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون) فهل بعد قول رسول الله نُحاسب الناس على توبتهم؟ أو نضع شروطًا لمن يزور سبطه الشهيد؟ الحسين ليس ساحة للحكم على الناس، بل ساحة يغفر الله فيها للكثير.
في هذا الطريق، تجد من يُصلّون، وتجد من يبكون، وتجد من لا يعرف حتى كيف يدعو... لكنه يسير، عيونه تحكي شيئًا لا يُقال، ربما يبحث عن نفسه، أو عن أبٍ فقده، أو عن حاجة في نفسه، أو عن الله ذاته. وربما تلك الخطوة، ذلك التعب، تلك الدمعة، تكون أول عهده بالهداية.
لذلك، دعهم يمشون... لا تحكم عليهم، ولا تحبطهم بكلمة، ولا تظن أنك وحدك الذي يحبّ الإمام الحسين ربما في الزحام، رجلٌ كان بعيدًا وعاد، وامرأةٌ لم تصلِّ منذ زمن لكنها وقفت قرب القبر وقالت: (احنا غير حسين ما عدنا وسيلة)، دعهم يمشون، فربما خطوة واحدة تصلح ما أفسدته سنين، فالحسين عليه السلام لم يُقصِ أحدًا في حياته، ولن يُقصي أحدًا في مماته.
[1] البقرة:222