مواقف الشعراء الخالدة في نصرة الدين -وقفة مع الفرزدق والدروس النافعة-
في مساءٍ يوم أمس، جلست مع رجلٍ طيّب القلب، يعلو وجهه شجنٌ لم يفارقه منذ سنوات، إنه الحاج (هادي صالح) والد الشهيد الذي ارتقى في صفوف لواء علي الأكبر (عليه السلام)، مقاتلًا شجاعًا لبّى نداء المرجعية وفتوى الدفاع الكفائي، ووقف سدًا منيعًا في وجه إرهاب داعش، حتى ارتقى إلى ربه بعد اثني عشر يومًا فقط من التحاقه بالجبهة بدعم وتشجيع من والده، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي يرى ابنه، وقبلها بثمانية أشهر فقد ابن أخيه اليتيم شهيدًا أيضا.
مرّت سنوات على شهادة ابنه، لكنّ آثار الفقد لا تتقادم في قلب الوالد، وفي أثناء الحديث معه روى لي الحاج موقفًا جعلني أتيقن بمعنى قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، إذ قال الحاج بصوتٍ حزين:
في أحد الأيام، كنتُ في العمل، فإذا بأحد الزملاء يُلقي كلمة مؤذية على سبيل المزاح، لكنها جرحتني بعمق، لم أحتمل ذلك... شعرت بأن قدميّ سارتا بي دون وعي... وصلتُ إلى قبر ابني الشهيد، وجلست أبكي عنده وكأنني أشتكي له، كأنني أُفرغ حزني على صدره الذي لم يعد يحتمل الحياة من دوني، ولا أحتملها من دونه، وبعدها عدتُ إلى البيت محمّلًا بالدموع وفي اليوم التالي، حدَث ما لم يكن في الحسبان...اتصل بي زميلي الذي أساء إليّ بصوت منكسر وهو يعتذر بحرقة ويقول: أبو أمير... أرجوك سامحني، أقبّل يديك، لماذا ذهب تشتكيني عند الإمام الحسين عليه السلام؟"
فأجابه الحاج بهدوء عجيب: أنا لم أذهب إلى الإمام الحسين عليه السلام، بل ذهب إلى قبر ابني الشهيد.
أقول: هنا حصلت الكرامة... ففهمت أنّ الشكوى وصلت، وأن ابنه أحياها من مقامه مع الأمام الحسين عليه السلام، إنها ليست مصادفة، فهؤلاء الشهداء الذين قضوا نحبهم دفاعًا عن الأرض والعِرض والمقدسات، لم يُدفنوا فحسب... بل أُلحِقوا بركب الحسين، هم الآن هناك... مع الحسين، مع علي الأكبر، مع القاسم، مع العباس (عليهم السلام جميعا) ... في عِليّين.
ولعلّ الشهيد سمع صوت والده من مقامه، وبلّغ شكواه إلى الأمام الحسين (عليه السلام)، فجاء الردّ من حيث لا يتوقّع أحد.
ختامًا ، نحن لا ندفن شهداءنا، بل نُشيّعهم إلى الخلود...دموع الآباء لا تضيع في التُراب، بل تسري إلى حيث تسكن الأرواح النقية، وتعود عليهم بالعزاء والعناية، إنّ الشهداء – كما وعدهم الله – ليسوا أمواتًا، بل هم أحياء، أرواحهم معلّقة بعِزّ الولاية، يسكنون عند الإمام الحسين (عليه السلام)، ويسمعون من يُناديهم، فليطمئن كل والد شهيد... أنّ ابنه في مأمن، في رحاب قول الله عز وجل في محكم كتابه ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [1]