البحث المتقدم

البحث المتقدم

السجاد.. إمامُ الرَّجاء!

0 تقييم المقال

بسم الله الرحمن الرحيم
 
خَلَقَ اللهُ تعالى للعقلِ جنوداً، وكانَ مِن أقوى جُنودِه الرَّجَاء.
ثمَّ كان لكلِّ جُنديٍّ ضِدٌّ، وكان القنوطُ ضِدَّاً للرَّجاء!
 
وفي أيامِنا المُعاصِرة، يحطُّ القنوطُ واليأسُ رِحالَهما في كَثيرٍ مِن بيوت عِبادِ الله، ويتربَّعانَ على عَرشٍ لطالَما سَكَنَ فيه الرَّجاء والأملُ!
 
لقد أدَّت مصاعِبُ الحياة ومَشَقّاتُها، وشدَّةُ البلاء وطوله، إلى أن يندَحِرَ الرَّجاءُ عِندَ فصيلتين من الناس، فَلَم يَجِد هؤلاء بأساً في القنوط واليأس.
 
أولاهما: القوم الكافرون، وقد قال يعقوبُ عليه السلام لبنيه: ﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ الله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُون﴾‏ (يوسف87).
 
ثانيهما: الضالون، وقد قال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّون﴾‏ (الحجر56).
 
ولئن كانت المصاعِبُ سَبَباً في قنوط هؤلاء وهؤلاء، فليس المؤمنُ أهونَ حالاً مِنهم في شدائده، وهو الذي يزدادُ بلاؤه كلّما ترقّى في مدارج الكمال.
 
ينظُرُ المؤمن حولَه، فيرى نفسَهُ غَريباً! في حياةٍ ليست له ولأمثاله!
الدُّنيا تَسيرُ باتِّجاهٍ لا يُشبِهُه! حتى كأنَّه بَلَغَ أو يكادُ مرحلة القابض على الجمر حِفظاً لدينه!
 
يتأمَّل في أمور دينِه، فيرى الشُّبُهات تتوالى مِن كلِّ حَدبٍ وصَوب، ويرى أعلام الضلال وراياته مُشرَعة، وأبوابه مفتوحة!
يرى اجتماع أهل الباطل على باطِلِهم، وتَفَرُّقَ أهل الحقِّ عن حقِّهم!
يرى الحقَّ لا يُعمَلُ به، والباطل لا يُتناهى عنه!
 
يرى غَزواً فكريَّاً ثقافيَّاً قد أصابَ الأمَّة في صميم عقيدتها وفكرها وتراثها ووعيها وسلوكها! ثمَّ النّاسُ في سُبَات! كأنَّهم غافلون عمّا يُراد بهم!
 
وهكذا يتسلَّلُ اليأس والقنوط والإحباط رويداً رويداً إلى جَمعِنا المؤمن! فَيَحطِمُ عناصِرَ القوَّة فيه، ويسلبُ الأملَ من العِباد، فتضيقُ عليهم الأرضُ بما رَحبت!
 
لكنَّ العاقلَ القويَّ لا ينهزمُ سَريعاً، بل ينظُر في سيرة أئمته ليقتبس من أسلِحَتِهم ما يدفعُ به القنوط عن نفسه.
 
ينظر في أيام شهادة السَّجاد إلى سيرته عليه السلام، فيرى عَجَباً! ثمَّ يستحقر ما وقعَ عليه مِن بلاء أمام ما وقع على إمامه..
 
يُغمِضُ النَّظَرَ عن واقعة كربلاء وما تلاها مِنَ المآسي، فيتأمَّلَ في سيرته عليه السلام، فيراه وهو الإمامُ المعصوم المفترضُ الطّاعة قد ظلَّ وَحيداً بعدَ الرِّدَّة، فقد ورد عن الصادق عليه السلام: ارْتَدَّ النَّاسُ بَعْدَ الحُسَيْنِ (ع) إِلَّا ثَلَاثَةً: أَبُو خَالِدٍ الْكَابُلِيُّ، وَيَحْيَى ابْنُ أُمِّ الطَّوِيلِ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ لَحِقُوا وَكَثُرُوا (الاختصاص ص64).
 
فكان الإمامُ في زَمَنٍ كاد ينعدمُ فيه المؤمنون، بل كان النّاسُ فيه يفتخرون بعداوة الحقّ وأميره عليٍّ عليه السلام وبنيه الأطهار!
 
فلقد كان الفَخرُ العظيم، والمناقب الجليلة في أمورٍ منها:
 
- تعليم الأولاد سَبَّ عليٍّ عليه السلام! والإعراض عن ذكرِ شيءٍ مِن فضائله!
- وكانت المرأة قبلَ أن تُزوَّج تُسأل عن حُبِّ أبي تراب، فإن أحبَّته أو ذَكَرَتهُ بخير اجتُنِبَت وأُعرِضَ عن زواجها!
- وكان أحدُهم يفتخر فيقول: ما وُلِدَ فينا ذكرٌ فسميّ علياً ولا حسناً ولا حسيناً! ولا ولدت فينا جاريةٌ فسميت فاطمة!
- وكانت النساء تَنذِرُ النُّذور لو قُتِلَ الحُسين عليه السلام! ولمّا قتل عليه السلام تنحر ما نَذَرَت وفاءً لله!
- ولقد كان الذي يُدعى إلى البراءة مِن عليٍّ ولعنه يزيدُ اللعن والبراءة من حَسَنٍ وحُسَين! (فرحة الغري ص22-23).
 
هذا نَزرٌ يسيرٌ من معاناة أيام السجّاد عليه السلام! ولقد كان في تَخاذُل الأمَّة بأكمَلِها عن إمامها ما يندى له جَبينُ الإنسانية!
 
بل إنَّ القومَ الذين قتلوا أباه قالوا له بعد ذلك وهم يبكون: فَإِنَّا حَرْبٌ لِحَرْبِكَ وَسِلْمٌ لِسِلْمِكَ!
 
وأرادوا منه حَملَ السِّلاح، فقال لهم: هَيْهَاتَ أَيُّهَا الغَدَرَةُ المَكَرَةُ!.. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا اليَّ كَمَا أَتَيتُمْ الى آبَائِي مِنْ قَبْلُ؟ (الاحتجاج ج2 ص306).
 
فأيُّ بلاءٍ هو هذا؟! ما روى غليلَ القوم قتلُ الحسين وأهل بيته، فغاظَهُم بَقَاءُ إرث آل محمد عند عليِّ بن الحسين عليه السلام، فبكوا وقالوا ما قالوا!
ما أعظمَ صبرك يا مولاي! هؤلاء يبكون أباك وأنت تعلم أنهم قاتلوه! ويزعمون أنَّهم ناصروك وأنت تعلم أنهم قاتلوك لو أجبتهم! فأيُّ بلاءٍ امتحنك الله به؟!
 
إنَّ ممّا يُثير الغيور على دينه أن يُمنَعَ الإمامُ مِن بيان ما يريد من علوم آل محمد عليهم السلام، بل يكون في بيانها خطرٌ على شخصه المبارك، فيَتَسَتَّرُ في إظهار ذلك، ثمَّ يُخرجُهُ على لسان عَمَّته زينب عليها السلام، ولقد: كَانَ مَا يَخْرُجُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ مِنْ عِلْمٍ يُنْسَبُ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيٍّ تَسَتُّراً عَلَى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْن!‏ (كمال الدين ج2 ص501).
 
وإذا ما أُتيح له أن يظُهِرَ بعض الكرامات في ظَرفٍ، سُرعان ما اتُّهم بالسِّحر كما اتُّهم جدُّه رسول الله، ولقد قال عبد الله بن عمر لابن ثابت لما أراهما الإمامُ عليه السلام بعضَ المعاجز: إِنَّكَ لَوْ عَرَفْتَ سِحْرَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لَمَا كَانَ هَذَا بِشَيْ‏ءٍ فِي نَفْسِكَ؛ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَتَوَارَثُونَ السِّحرَ كَابِراً عَنْ كَابِرٍ (دلائل الإمامة ص212).
ثمَّ شابَهَ جَدَّه حيث قالوا عنه قُبيل شهادته: إِنَّهُ لَيَهْجُرُ! (دلائل الإمامة ص208).
 
فكيف كان الإمامُ مع كلِّ البلاءات؟! ما ذَكَرنَا وما لم نَذكُر.. ما بَلَغَنا وما لَم يبلُغنا؟!
إنَّ الإمام لمّا كان صاحبَ الكمال المُطلق في عقله ودينه وإيمانه، لم يكن للقنوط واليأس عنده سبيل، فهو (إمامُ الرَّجاء)!
 
ولئن كانت أفعالُه تغني عن الأقوال، فإن في كلماته ما يكشف عن معانٍ عظيمة، تقلبُ المعادلة كلَّها، منها أمور ثلاثة في غاية العظمة:
 
الأوَّل: القضاء لا يجري إلا بالخير!
 
يقول عليه السلام في صحيفته المباركة:
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَطَيِّبْ بِقَضَائِكَ نَفْسِي، وَوَسِّعْ بِمَوَاقِعِ حُكْمِكَ صَدْرِي، وَهَبْ لِيَ الثِّقَةَ لِأُقِرَّ مَعَهَا بِأَنَّ قَضَاءَكَ لَمْ يَجْرِ إِلَّا بِالْخِيَرَةِ، وَاجْعَلْ شُكْرِي لَكَ عَلَى مَا زَوَيْتَ عَنِّي أَوْفَرَ مِنْ شُكْرِي إِيَّاكَ عَلَى مَا خَوَّلْتَنِي‏ (الدعاء35).
 
فهو يُبيِّن لكلِّ عاقلٍ أنَّ الإله الحكيمَ لا يفعل بعبادِه إلا ما فيه الخيرُ والصلاح لهم، ولا يأذن في أن يقع عليهم شيء من البلاء إلا في نفعِهم، ولا يمنعهم من أن يُظلَموا إلا ليكتُبَ لهم عظيم الجزاء عنده.
فحينَ نزول شآبيب الرحمة عليهم يكون في ذلك كلُّ الخير لهم، ويلزمُهُم الشكر.
وحين يزوي تعالى عنهم النَّصر والعافية يكون في ذلك أجرٌ مُضاعَف، فيزدادون شُكراً!
فشُكرُهُم في وقت الشدَّة أعظم منه في وقت الرَّخاء!
 
وهكذا يُعلِّمُ الإمامُ أشياعَهُ وأتباعه على شُكر الله في السلامة والمرض، في الشدة والرَّخاء، فيحمد العبدُ ربَّه إذا أحدَثَ به علَّةً في جَسَده! كما يحمده إذا عافاه، ويشكره إذا دفع عنه البلاء كما يشكره إذا أوقعه.. حتى يقول الإمام عليه السلام: فَمَا أَدْرِي، يَا إِلَهِي، أَيُّ الحَالَيْنِ أَحَقُّ بِالشُّكْرِ لَكَ، وَأَيُّ الْوَقْتَيْنِ أَوْلَى بِالحَمْدِ لَكَ (الدعاء15).
 
هكذا يصيرُ البلاءُ والظُّلمُ الذي يقع على المؤمن نِعمةً يتحفه الله تعالى بها، يخفِّفُ بها أوزاره، أو يرفع بها درجاته، فأيُّ شيءٍ يبقى في النَّفس إذا ما ضاقت الدُّنيا إلا شكر لله تعالى والتوجه إليه!
 
الثاني: كلُّ مكروه يسيرٌ في رضا الله!
 
يقول عليه السلام مخاطباً ربَّه عزَّ وجل: كُلُّ مَكْرُوهٍ جَلَلٌ دُونَ سَخَطِكَ، وَكُلُّ مَرْزِئَةٍ سَوَاءٌ مَعَ مَوْجِدَتِكَ (الدعاء14).
 
أي أنَّ المؤمن يرى كلَّ مُصيبةٍ هَيِّنَةً ما دام الله تعالى غير ساخطٍ عليه، أما إن غضبَ الله تعالى فتستوي المصائب حينها إذ ما نفعُ النَّجاة منها أو الوقوع فيها وقد غضبَ الإلهُ العظيمُ على عبده اللئيم!
 
وهكذا لا يرى المؤمنُ فيما ينزل عليه من مصائب على عَظَمَتِها إلا أمراً يسيراً حقيراً في قِبال رضا الرب الجليل، فيهون عليه كلُّ ما ينزل به.
 
الثالث: القناعة بتأخير عقاب الظالمين!
 
يقول الإمام عليه السلام: اللَّهُمَّ وَإِنْ كَانَتِ الْخِيَرَةُ لِي عِنْدَكَ فِي تَأْخِيرِ الْأَخْذِ لِي، وَتَرْكِ الِانْتِقَامِ مِمَّنْ ظَلَمَنِي إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ، وَمَجْمَعِ الْخَصْمِ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، وَأَيِّدْنِي مِنْكَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ وَصَبْرٍ دَائِمٍ، وَأَعِذْنِي مِنْ سُوءِ الرَّغْبَةِ وَهَلَعِ أَهْلِ الْحِرْصِ، وَصَوِّرْ فِي قَلْبِي مِثَالَ مَا ادَّخَرْتَ لِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَأَعْدَدْتَ لِخَصْمِي مِنْ جَزَائِكَ وَعِقَابِكَ، وَاجْعَلْ ذَلِكَ سَبَباً لِقَنَاعَتِي بِمَا قَضَيْتَ، وَثِقَتِي بِمَا تَخَيَّرْت‏ (الدعاء14).
 
يُسلِّمُ المؤمنُ أمرَه لله تعالى كإمامه، فيرضى ويقنع بما يختارُهُ الله تعالى، مِن دَفعِ البلاء أو الإذن بنزوله، ومِن معاجَلَةِ الظالم بعقوبته، أو تأخيرها إلى يوم الجزاء، ففي كلِّ ذلك يكون الصلاح والخير للمؤمن!
يؤمن بذلك، ويدعو ربَّه أن يُري قلبَهُ ذلك حقاً كي تهون عليه مصائبه.
 
هكذا تَعَلَّمَ المؤمنون مِن إمامهم، فصِرتَ ترى أحدَهم لا يكترثُ لشيءٍ من البلاء يقع عليه، ولا لضيقٍ يراه في أمورٍ دينه ودُنياه بعد أن يطمئن لرضا ربِّه.
صار المؤمنون أعداءَ القنوط واليأس، فإنَّهم يأملون الرحمة حين يُصابُ النّاس بالإحباط، ويرجون الله حين يُصابُ سواهُم بالقنوط، ويعلمون أنَّ الخير كلَّ الخير في ما يقع عليهم، بعد أن أدّوا لله ما أمرهم.
 
يقول الباقر عليه السلام: لَا تَرَوْنَ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ حَتَّى تَكُونُوا كَالْمِعْزَى المَوَاتِ، الَّتِي لَا يُبَالِي الْخَابِسُ أَيْنَ يَضَعُ يَدَهُ فِيهَا، لَيْسَ لَكُمْ شَرَفٌ تَرْقَوْنَهُ، وَلَا سِنَادٌ تُسْنِدُونَ إِلَيْهِ أَمْرَكُمْ (الكافي ج8 ص263).
 
ينتظرُ المؤمنون الفرَجَ بظهور الإمام الآخذ بالثار، لكنَّ هناك مرحلةً مِنَ البلاء سَتَعُمُّهم، يُستضعفون فيها، ويستولي على أمرهم أعداؤهم، فلا يجدون ما يدفعون به عن أنفسِهم، ولا ما يحافظون به على قُوَّتهم، فيتناوَلُهم أعداؤهم كما يتناولُ الرَّجلُ بعضَ قطيعه! لا يكونُ لكبيرِهم شأنٌ عند عدوِّهم فضلاً عن صغيرهم! وهم في كلِّ ذلك لا يرون إلا خيراً! ولا يزدادون إلا رجاءً!
 
إمامُهم السجّادُ رأى مِن قبلُ ما لا يطيقُ أحدٌ حملَه، وارتدَّ الناس عنه وعن أسرته الطاهرة، لكنَّه ما رأى إلا جميلاً! فهو (إمام الرَّجاء)!
 
هكذا تكونُ المصائب على المؤمن، فيرضى من رَبِّه بما يقع عليه، ويعلم أن ما ادَّخَرَ الله تعالى له سَيُنسِيه شدائده، وينتظرُ يوماً يأخذ الله تعالى له فيه حقَّه، عندما يؤخذ بحق إمامه المظلوم..
 
بهذه المعادلات الذَّهبية يعجزُ أهل الشقاق أمام أهل الإيمان، الذين يزدادون بالله أملاً، وله رجاءً، كلَّما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.
ويدفعون بذلك وساوس النَّفس والشيطان، فيفرُّ القنوط منهم، وترى أحدَهم راضي النَّفس، مطمَئنَّاً بما يُثير العجب..
 
إنَّها حلاوة الإيمان يُبدونَهُ تَبَدِّياً، بعدما كساهُمُ الله مِن نوره.. دون سواهم..
 
جعلنا الله تعالى منهم، وثبَّتنا على ولاية أئمتنا الأطهار.
والحمد لله رب العالمين.

نعم
هل اعجبك المقال