بسم الله الرحمن الرحيم
تحدَّثت سورة النَّحل عن فئةٍ من الغلاة، تنسب لله البنات، فقال عزَّ وجل: ﴿وَيَجْعَلُونَ لله البَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ * وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظيمٌ﴾ (النحل 57-58).
يزعم هؤلاء أنَّ الملائكة بنات الله: ﴿وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً﴾ (الزخرف19).
لكنَّهم في الوقت عينه لا يشتهون الإناث! بل يحبُّون الذكور فقط، إلى حدِّ أنَّ أحدهم يَسوَدُّ وجهه لو بُشِّرَ بالأنثى! مع نسبَتها لله! جلَّ الخالق تبارك وتعالى.
كان هؤلاء من مشركي قريش، الذين كانوا يئدون البنات في الجاهلية، حتى أنَّ ثاني الخلفاء بعد النبيّ، الذي تسلَّمَ الخلافة غصباً وزوراً، كان من هؤلاء! كان قاسي القلب بحيث وَأَدَ ابنته!
كانت تمسح التراب عن لحيته وهو يحفر القبر ليدفنها فيه حيَّة!
هؤلاء ليسوا على منهج الأنبياء.. هؤلاء يَسوَدُّ وجههم إذا بُشِّرُوا بالأنثى، أما خليل الرحمان إبراهيم عليه السلام، فكان يطلب من الله أن يرزقه ابنةً تبكيه بعد موته!
فكم فَرقٌ بين من يهبه الله ابنةً فيسخط لذلك! وبين من يدعو الله أن يرزقه أنثى! فالمؤمن يحبُّ البنت كما يحبّ الإبن، ويفرح بهما.
يُروى أنَّ رجلاً ولدت له جاريةٌ، فدخل على الإمام الصادق عليه السلام، فَرَآهُ مُتَسَخِّطاً!
فقال له عليه السلام: أَ رَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَيْكَ أَنْ أَخْتَارُ لَكَ؟ أَوْ تَخْتَارُ لِنَفْسِكَ؟ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟
قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: يَا رَبِّ تَخْتَارُ لِي!
قَالَ: فَإِنَّ الله قَدِ اخْتَارَ لَكَ!
ما ألطَفَ هذا المعنى.. وما أروَعَ كلام الإمام!
الله تعالى لا يختارُ للعبد إلا ما فيه الخيرُ والصلاح، وقد اختار لكلِّ واحدٍ منَّا أموراً كثيرةً لا نقدرُ على تبديلها.. فهل نرضى باختياره أم نسخط؟!
ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ العَالِمُ الَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى (ع) وَهُوَ قَوْلُ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ أَبْدَلَهُمَا الله بِهِ جَارِيَةً وَلَدَتْ سَبْعِينَ نَبِيّاً! (الكافي ج6 ص6).
كانت هناك إذاً فئةٌ منحرفةٌ تنسبُ لله البنات.. وفي قبالِها فئةٌ أخرى من أهل الغلوّ تنسب لله البنين!
قال تعالى: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقالَتِ النَّصارى المَسيحُ ابْنُ الله ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (التوبة30).
هؤلاء أيضاً أعداء الله تعالى، فالله منزَّهٌ عن البنين كما هو منزَّهٌ عن البنات.
مِن ثمَّ ترقَّى اليهود والنصارى فزعموا أنهم هم أبناء الله أيضاً!
قال تعالى: ﴿وَقالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلله مُلْكُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ المَصيرُ﴾ (المائدة18).
كانت هناك فئةٌ ثالثة من الغلاة.. وقد نُسِبَ بعض هؤلاء إلى التشيُّع.. فقيل أنَّ منهم من ألَّهَ عليَّاً عليه السلام.. وزعم أنَّه هو الخالق.. وما من خالق إلا الله تعالى.. خالق محمدٍ وعليٍّ وكلِّ ما في هذا الوجود..
وكان منهم من أنكر شهادة الحسين عليه السلام.. لأنَّه الله بزعمهم (والعياذ بالله)! كما في كتاب (الهفت والأظلة) المنسوب إلى بعضهم.. حيث ورد فيه:
وان الحسين لما خرج إلى العراق وكان الله محتجب به..!! حتى اذا كان اليوم الذي اجتمعت فيه العساكر.. حينئذ دعا مولانا الحسين جبريل، وقال له: يا اخي من أنا؟
قال: أنت الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم والمميت والمحيي!! (كتاب الهفت ص97).
ولقد كان من هؤلاء الغلاة محمد بن نصير النميري.. وقد ادَّعى أنه رسولٌ نَبيٌّ أرسله الإمام الهادي عليه السلام! وكان يغلو فيه ويقول فيه بالرُّبوبية! وكان يقول بإباحة المحرَّمات وسقوط الأعمال! (الغيبة للطوسي ص398).
لم تكُن هذه الفئة الثالثة أقلّ خطراً من سواها.. فهؤلاء الغلاة يشكِّلون خطراً كبيراً على شباب الشيعة، وقد حذَّرَ منهم الصادق عليه السلام فقال:
احْذَرُوا عَلَى شَبَابِكُمْ الغُلَاةَ لَا يُفْسِدُونَهُمْ، فَإِنَّ الغُلَاةَ شَرُّ خَلْقِ الله، يُصَغِّرُونَ عَظَمَةَ الله، وَيَدَّعُونَ الرُّبُوبِيَّةَ لِعِبَادِ الله، وَالله إِنَّ الغُلَاةَ شَرٌّ مِنَ اليَهُودِ وَالنَّصارى وَالمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا! (الأمالي للطوسي ص650).
فإذا سمعنا أحداً يقول بأن علياً هو الله! أو أن علياً له صفات الله! فهو من أهل الغلوِّ الذين سبقوا اليهود والنصارى والمشركين في قبح قولهم..
لقد رَدَّ الباقرُ عليه السلام هذه المقولات الثلاثة بعبارة جميلة.. حين قال عليه السلام: لَيْسَ بَيْنَ الله وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ!
إنَّ الناس بعضهم أقرباءُ بعض.. بالأبوَّة والبنوَّة والأخوَّة وأمثال ذلك.. لكنَّ الله تعالى لا يقرَبُ أحداً من العباد..
رغم ذلك.. يتقرَّبُ العبادُ إلى الله تعالى بالعقيدة الحقَّة.. والعمل الصالح..
فما يُقرِّبُنا منه عزَّ وجلَّ هو تَشَيُّعُنا.. ثم عَمَلُنا الصالح..
يقول الباقر عليه السلام: وَالله مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى الله وَأَطَاعَهُ!
ولهؤلاء علاماتٌ يذكرها الإمام عليه السلام فيقول:
وَمَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلَّا:
1. بِالتَّوَاضُعِ
لقد تواضَعَ الشيعة لله تعالى، وتكَبَّرَ غيرُهم على الله، لأنَّ الله أمر باتباع محمدٍ وعليٍّ عليهما وآلهما السلام، وما اتبعهما معاً سوى الشيعة، فهم أكثر الناس تواضعاً له تعالى، ولنبيِّه ووليِّه، ولبعضهم البعض.. فالمؤمن يتواضع لأخيه ولا يتكبَّرُ عليه بحال.
2. وَالتَّخَشُّعِ
لقد عَرَفَ الشيعةُ عظمة الله فخشعت قلوبهم له.. ونَزَّهوه عن مشابهة المخلوقات.. وعن الظلم والجَور والجَبر.. وعن أن يُقَدِّمَ المفضول على الفاضل..
3. وَالأَمَانَةِ
إنَّ ولاية آل محمدٍ أمانةٌ من الله تعالى ورسوله في أعناق هذه الأمَّة.. وما حفظها ورعاها أحدٌ كالشيعة.. وإذا كان الله تعالى سيسأل العباد عمّا استودعهم من أماناتٍ صغيرةً كانت أم كبيرة.. فإنَّ المؤمنين الذين يجري حُبُّ آل محمدٍ في عروقهم قد حفظوها صِغاراً وشَبُّوا عليها كباراً.. فما فارقتهم ولا فارقوها.. ومنها تعلَّموا حفظ كلِّ أمانةٍ أخرى.. فالشيعة هم أهلُ أداء الأمانات إلى أصحابها..
4. وَكَثْرَةِ ذِكْرِ الله..
ومن الذِّكر ما يكون باللِّسان، وأعظمه تسبيح فاطمة الزهراء عليه السلام، وهو الذِّكرُ الكثير.. وليس من الشيعة مَن يُفوِّتُ ذلك غالباً..
ومن الذِّكر ما يكون عند المصيبة والبلاء.. فيورثُ صبراً وطمأنينة..
وعند المعصية.. فيورث إحجاماً وارتداعاً عنها..
5. وَالبِرِّ بِالوَالِدَيْنِ
ولقد صار المؤمنون من أهل البرِّ بآبائهم وأمَّهاتهم.. وبأبوي هذه الأمَّة.. محمدٍ وعليٍّ عليهما السلام.. بطاعتهما.. وحبِّهما وحبِّ آلهما.. وإحياء أمرهما.. والذَّبِّ عنهما..
6. وَالتَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الفُقَرَاءِ وَأَهْلِ المَسْكَنَةِ وَالغَارِمِينَ وَالأَيْتَامِ
إنَّ فقراء الشيعة أمانةٌ عند أغنيائهم.. فمن تعاهدَ الفقراء وأعانهم كان ممَّن أدَّى الأمانة.. ومن قدر على معونة المؤمن الفقير المسكين ولم يفعل فهو من المقصِّرين..
هذه بعضُ الصِّفات التي تميَّزَ بها الشيعة قديماً وحديثاً.. فجمعوا بين العقيدة الحقَّة.. والعمل الصالح.. فصاروا من أفضل عباد الله تعالى.. فبارَكَ الله لهم حتى في مجالسهم..
فصارت مهبط الملائكة.. لأنَّها مجالس يُحبُّها الله ورسوله.. يُذكَرُ فيها آل محمد، ويُعَظَّمُ أمرهم، فهو من أمر الله تعالى.
لقد ذكر الباقر عليه السلام هذه الصفات وغيرها ثم قال:
لَيْسَ بَيْنَ الله وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ!
مَنْ كَانَ لله مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ!
وَمَنْ كَانَ لله عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ!
وَمَا تُنَالُ وَلَايَتُنَا إِلَّا بِالعَمَلِ وَالوَرَعِ (الكافي ج2 ص74).
فإذا أردنا أن نوالي محمداً صلى الله عليه وآله، وعليّاً عليه السلام، ونحن في ذكرى ولادته.. لا بدَّ لنا من طاعة الله.. فليس شيءٌ يقرِّبُنا منه ومنهم كالطاعة..
وأعظم ما أطاع الشيعةُ ربَّهم به هو موالاة آل محمدٍ عليهم السلام، فما نودي بشيءٍ كما نودي بالولاية، وهي أعظم الفرائض..
هي أعظم من الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس، رغم ذلك لا يصح أن نكتفي بها، فإنَّا إن لم نعمل فقدنا الولاية وخسرناها.. فهي لا تُنال إلا بالورع..
نستذكرُ في مثل هذه الليلة التي وُلِدَ فيها أمير المؤمنين عليه السلام بعض الكرامات الباهرة التي ظهرت قبل ولادته عليه السلام..
لقد كان عليٌّ عليه السلام نوراً في صلب أبي طالب عليه السلام، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينتقل هذا النور إلى فاطمة بنت أسد عليها السلام، فأنزل مائدة من السماء على أبي طالب عليه السلام.
اختار أبو طالب منها رمانةً..
ثُمَّ نَهَضَ مِنْ سَاعَتِهِ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ (رض)، فَلَمَّا اسْتَوْدَعَهَا النُّورَ ارْتَجَّتِ الأَرْضُ وَتَزَلْزَلَتْ بِهِمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
حَتَّى أَصَابَ قُرَيْشاً مِنْ ذَلِكَ شِدَّةٌ فَفَزِعُوا.
أراد القومُ أن يسألوا آلهتهم تسكين ما بهم، فاجتمعوا على جبل أبي قبيس.. لكنَّه ارتجّ واضطرب، وتساقطت الآلهة على وجهها، حينها أدركوا أن ليس لهم طاقة بما يجري..
حينها صعد أبو طالب الجبل وقال لهم:
أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ الله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ حَادِثاً، وَخَلَقَ فِيهَا خَلْقاً، فَإِنْ لَمْ تُطِيعُوهُ وَتُقِرُّوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَتَشْهَدُوا لَهُ بِالإِمَامَةِ المُسْتَحَقَّةِ، وَإِلَّا لَمْ يَسْكُنْ مَا بِكُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ بِتِهَامَةَ سَكَنٌ! (الفضائل ص56).
ولمَّا أقرَّ القومُ بذلك رَحِمَهم الله تعالى..
أمّا ساعة الولادة الميمونة...
فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا (ع) أَشْرَقَتِ الأَرْضُ وَتَضَاعَفَتِ النُّجُوم! (الفضائل ص56).
ههنا حدَثٌ لافتٌ يُنقل..
يُقَالُ أنَّ عليَّاً عليه السلام لمَّا ولد في الكعبة.. وظلَّت أمّه ثلاثة أيام داخلها.. لم يفتح عينيه على شيء! حتى يأتيه رسولُ الله صلى الله عليه وآله! فيكون أول من يقع عليه نظره!
إنَّ علياً عالِمٌ ولو أغمض عينيه.. لكن.. إن صحَّ هذا النقل.. فقد أحب عليٌّ عليه السلام أن يكون أول ما تقع عليه عيناه هو رسول الله صلى الله عليه وآله، حينها قال رسول الله صلى الله عليه وآله كلمتان حَقَّ أن تُكتَبَا بماء الذهب، قال: خَصَّنِي بِالنَّظَرِ، وَخَصَصْتُهُ بِالعِلْم! (مناقب آل ابي طالب ج2 ص175).
فصار عليٌّ باب مدينة علم النبيِّ..
جعلنا الله ممن يدخل البيوت من أبوابها.. وثبَّتنا على ولاية الأطهار.. وأسعد الله أيامنا وأيامكم..
والحمد لله رب العالمين
قم المقدَّسة، في ذكرى ولادة أمير المؤمنين عليه السلام، ألقيَ في هيئة أبي طالب عليه السلام، الأربعاء 24 – 1 – 2024 الموافق 12 رجب 1445 هـ