بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي..
هذه كلمةٌ خالدَةٌ لأمير المؤمنين عليه السلام في نهجه الشريف، كَثُرَ التداوُلُ بها في سِنِيِّنَا الأخيرة، لكنَّ مفهومَها حُمِّلَ ما لا يحتَمِلَ، واستُثمِرَ في غير محله، حتى صارَت علامةَ تفرقةٍ عندَ بعضِهم بدلاً من أن تجمع الشيعة وتُوَحِّدَهُم كما هو حقُّها أن تكون.
فَصِرتَ ترى مِنَ الشيعة مَن يزعم أنَّ (البصيرة) حكرٌ عليه! أو على مَن يمثِّل!
وأنَّ غيرَه من المؤمنين ليسوا من أصحاب البصائر ما لم يتلوَّنوا بلونه! وينتموا الى فئته أو جهته!
حتى غدا لفظ (البصيرة) مدعاةً للفَخرِ تارةً، و(الافتخار) أخرى، و(التكبُّر) ثالثةً! وسبباً لحساسيةٍ ليس لها من مبرِّر، أو فتنةٍ وقى الله المؤمنين شرَّها.
فما قِصَّةُ هذه العبارة؟ وما أصلُها؟ وما رَبطُها بشهداء الطفّ؟! وما صلتها بأيامنا المعاصرة؟
أوَّلاً: البصيرة.. مع محمدٍ وعليّ!
إنَّ للبصيرة أصلاً قرآنياً، حين خاطب الله تعالى نبيّه محمداً صلى الله عليه وآله في سورة يوسف: (قُلْ هذِهِ سَبيلي أَدْعُوا الى الله عَلى بَصيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبْحانَ الله وما أَنَا مِنَ المُشْرِكينَ).
إنَّ البصيرة في اللغة تَنصَبُّ على الإعتقاد والدِّين أولاً.
يقول الخليل بن أحمد: والبَصِيرةُ اسمٌ لما اعتُقِدَ في القلب من الدِّين وحَقِيقِ الأمر (العين ج7 ص117).
وفي لسان العرب: البَصيرة: الثَّبَاتُ في الدّين (ج4 ص65).
وقد يُقصَدُ بالبصيرة العلم والوضوح والبرهان والتَّفَقُّه وأمثال ذلك..
البصيرةُ إذاً مقرونةٌ بالتمسُّك بالسبيل الذي أمرَ الله بالتمسُّك به (قُلْ هذِهِ سَبيلي) وليس إلا ولاية آل محمدٍ عليهم السلام، فعن الصادق عليه السلام في هذه الآية: هِيَ والله وَلَايَتُنَا أَهْلَ البَيْتِ (تفسير فرات ص201).
وعن الباقر عليه السلام: عَلِيٌّ هُوَ السَّبِيل (تفسير فرات ص291).
وعنه عليه السلام: ذَاكَ رَسُولُ الله (ص) وَأَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (ع) وَالأَوْصِيَاءُ مِنْ بَعْدِهِمْ (الكافي ج1 ص425).
مِن ثّمَّ وَرَدَ في زيارة يوم الغدير في عَليٍّ عليه السلام:
رَبَّنَا.. اتَّبَعْنَا مَوْلَانَا.. الدَّاعِيَ اليْكَ عَلَى بَصِيرَةٍ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَه (المزار للمفيد ص91).
فَقَرَنَت الزيارةُ كما الآية بين اتِّباع عليٍّ عليه السلام، وبين البصيرة، فمَن كان لَهُ مُتَّبِعاً كان من أهلها، فهو إمامُ الدين وبابُه وطريقه..
لذا أشارَ الصادقُ عليه السلام الى أن معرفة دين الله موقوفةٌ على معرفة الأئمة عليهم السلام، وهي: مَعْرِفَةٌ ثَابِتَةٌ عَلَى بَصِيرَةٍ، يُعْرَفُ بِهَا دِينُ الله، وَيُوصَلُ بِهَا الى مَعْرِفَةِ الله (بصائر الدرجات ج1 ص526).
ثانياً: البصيرة.. وسيد الشهداء
إنَّ المعصومين هم أصحاب البصيرة المطلقة، هم الذين إذا كُشِفَ لهم الغطاء ما ازدادوا يقيناً..
فإذا كان الأمرُ كذلك، فَهِمنَا لماذا يخاطِبُ الصادقُ جدَّه سيد الشهداء عليهما السلام فيقول: أَشْهَدُ أَنَّكَ.. مَضَيْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ لِلَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ (كامل الزيارات ص199).
فالحسين كالنبيِّ وسائر الأئمة في كونه: (أَدْعُوا الى الله عَلى بَصيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَني)..
ثمَّ يليهم المؤمنون بقَدرِ ما عندهم من معرفةٍ وعقيدةٍ راسخةٍ، ويقينٍ وبرهانٍ، يُصدِّقُها العملُ الصالح.
فعنهم عليهم السلام: مَنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنِ الله لَمْ يَعْقِدْ قَلْبَهُ عَلَى مَعْرِفَةٍ ثَابِتَةٍ يُبْصِرُهَا، وَيَجِدُ حَقِيقَتَهَا فِي قَلْبِهِ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ كَذَلِكَ إِلَّا مَنْ كَانَ قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ مُصَدِّقاً، وَسِرُّهُ لِعَلَانِيَتِهِ مُوَافِقاً (الكافي ج1 ص18).
حينها أيضاً نفهم كيف يكون العبَّاس عليه السلام من أهل البصيرة كما في زيارته: أَشْهَدُ أَنَّكَ.. مَضَيْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِكَ (كامل الزيارات ص257).
بل أن يكون نافذ البصيرة كما عن الصادق عليه السلام: كان عمُّنا العباسُ بن علي نافذَ البصيرة، صلب الايمان (عمدة الطالب ص356).
ولقد أدرك أعداء الحسين عليه السلام بعض هذه المعاني، فوصفوا أصحاب الحسين بأنَّهم: أهل البصائر (بحار الأنوار ج45 ص19).
لقد كان أصحابُهُ عليه السلام من أهل الولاية لآل محمدٍ، وأهل طاعتهم، فصاروا بذلك من أهل البصيرة.
ولقد تسامى هؤلاء بقدر معرفتهم واعتقادهم ويقينهم بإمامهم، فليست البصيرة شيئاً آخر سوى قوّة الاعتقاد واليقين والثبات على ولاية الأطهار.
لقد دعتهُم معرفتهم بالإمام للذَّبِّ عنه حين قالوا: لَا نَخْتَارُ العَيْشَ بَعْدَكَ؟!
فأحبُّوا القتل معه مراراً وتِكراراً على الحياة دونه..
بل بلغ حالُ بعضهم أنَّه كان يترقَّب تلك الساعة وينتظرها!
فهذا رجلٌ أسديٌّ لازَمَ كربلاء قبل وصول الإمام الحسين إليها! ولمّا سئل عن ذلك قال: بلغني أنَّ حسيناً يُقتَل هاهنا. فأنا أخرج لَعَلِّي أصادفه فأقتل معه!
وكان له ما أراد.. فلقد وجدوه بين القتلى بعد واقعة الطفّ! (الطبقات الكبرى ج1 ص435).
هي بصائرُ قومٍ كُشِفَ لهم الغطاء: حَتَّى رَأَوْا مَنَازِلهُمْ مِنَ الجَنَّةِ..
فقلنا لهم: أَشْهَدُ لَقَدْ كُشِفَ لَكُمُ الغِطَاءُ..
هنيئاً لهم.. ما أعظم منزلتهم.. وأرفع مكانتهم..
لقد صاروا أوفى أصحابٍ، فلا يُقرَنُ بهم سواهم، ولا يُشابهُهم مَن عداهم..
ثالثاً: البصيرة.. في أيامنا
إذا كان معيارُ تحقُّق البصيرةِ وعدمه هو الانتماءُ لعليٍّ عليه السلام، وتصديقُ ذلك بالفِعال.. كان لزاماً علينا أن نُعامِلَ كلَّ مؤمنٍ موال له عليه السلام على أنَّه من أهل البصيرة.
وليس لنا أن نُضَيِّقَ الدائرة، ونحصُرَها بفئةٍ من الشيعة، بغير وجهِ حقٍ، كما يجري في أيامنا..
لقد صِرتَ ترى اليوم مَن يزعم أنَّ الله اختصَّه بالبصيرة، وحَرَمَ منها سائر الشيعة!
وكأنَّ الآية نزلت فيه وفي مَن تَلوَّنَ بلونه! لا في آل محمدٍ ومَن اتَّبَعَهم!
لم يَعُد القارئ الكريم يفاجأ بمثل هذه الكلمات..
فهي لم تَعُد رهينة جلساتٍ خاصَّة ضَيِّقة!
بل صارت تُحكى على المنابر! وفي النَّدوات والجلسات العامة.. ويسمعها المؤمنون مراراً.
وصارت تُنشر في كتبٍ ومؤلفات يُروَّجُ لها بين المؤمنين!
يُذكَرُ في بعضها مسائل لم يتّفق عليها الشيعة، على أنَّها من مبادئ كسب البصيرة! وتشخيص الحق والباطل، سوى القرآن والنبيّ والعترة!
وكأنَّ الاختلافَ بين الشيعة في مسائلهم الفقهية، أو في رجوعهم لعالمٍ دونَ آخر، علامة فارقة على إخراج كثيرٍ منهم من دائرة البصيرة!
وهذا أمرٌ غريبٌ على بيئتنا الشيعية.. قد يفتح باب الفتنة بين المؤمنين، ما يوجب تداركه قبل فوات الأوان.
فليسَ من الصحيح أن يُروَّجَ لجهاتٍ مُحَدَّدةٍ على أنَّها تمثِّل الإمامة! أو على أنَّها طريقٌ حصريٌّ لمعرفة الإمام! ويتمُّ إقصاءُ مَن عداها من المؤمنين الموالين عن هذه دائرة الولاية!
فإذا كان سبيلُ الله هو طريقُ محمدٍ وعليٍّ والأئمة المعصومين عليهم السلام، كيف يسوغ لنا أن نُضيِّقَ هذه الطريق ونقصرها على أنفُسنا ونُخرجَ منها فئاماً من المؤمنين الموالين العارفين بإمامهم؟!
ثمَّ كيفَ لنا أن نُعامِلَ غيرَ الإمام معاملةَ الإمام وننزله محلَّه وقد نُهينا عن ذلك على لسان الصادق عليه السلام: إِيَّاكَ أَنْ تَنْصِبَ رَجُلًا دُونَ الحُجَّةِ فَتُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا قَال (الكافي ج2 ص298).
وكيف يسوغُ لنا في أيام سيِّدِ الشُّهداء أن ننسبَ العصمة لغير الإثني عشر؟!
أو نُنَزِّل سواهم منزلتهم في لزوم الطاعة المطلقة مع عدم عصمته؟! فننقض بأيدينا أهمَّ دليلٍ من أدلَّة الإمامة! وهو لزوم كون الإمام معصوماً!
بل نساوي الإمام بغيره!
أليسَ في هذا بَخسٌ لحقِّهم عليهم السلام؟! وحَطٌّ من شأنهم وقَدرهم؟! مع أنَّ إمامتهم أجلُّ قدراً من أن ينالها الناس بآرائهم..
وفوق هذا..
كيف نُدعى لتعطيل العقول بحجَّة البصيرة؟! وإيكال التفكير الى غيرنا؟!
وقد ورد عنهم عليهم السلام: مَا يُعْبَأُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ (المحاسن ج1 ص194).
اليس العقل أغنى الغنى؟! فهل ساغَ لنا أن نُخرجَهُ عن حدِّه وهو حجّة الله الباطنة على العباد؟!
ثمَّ كيف يتطاولُ بعضنا على بعضٍ، ويتجاوز بعضنا على بعض.. ويُحَقِّرُ بعضنا بعضاً.. لو كُنَّا من أهل البصائر المؤمنين!
والله يصفُ المؤمنين بأنهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ).
فمن أراد أن يكون من أهل البصيرة عليه أن يكون رحيماً بإخوانه.. فإنَّ المؤمن أخو المؤمن، خُلِقَا من طينةٍ واحدة.
وعلى المؤمن أن يكون بَرَّاً وَصولاً بأخيه، عطوفاً عليه.
كَم يعجَبُ المؤمنُ حين يرى أخاً له في ولاية آل محمدٍ شَديداً عليه! رَحيماً بأتباعِ السَّقيفة!
هكذا تصيرُ البصيرةُ في أيامنا مادةً للسِّجال والتفرقة، بدلاً من أن تكون باباً للعَودِ الى المعصومين، والتعرُّف عليهم حقَّ معرفتهم، لتسمو بذلك نفوسنا، وتتنوَّرَ قلوبنا، فنكون على بصيرةٍ من ديننا.
البصيرةُ تدعونا إلى أن نتورَّعَ عن اتّهام أخوةٍ لنا في الدين، ونكفَّ عن أذاهم.. عَلَّ نظرات الإمام الحجة تغمرنا بالتوفيق.
لقد ورد في زيارة يوم الغدير.. بعد التوجه لله تعالى:
رَبَّنَا.. أَسْالكَ.. أَنْ تُتِمَّ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ.. وَارْزُقْنَا مُرَافَقَةَ وَلِيِّكَ الهَادِي المَهْدِيِّ الى الهُدَى، وَتَحْتَ لِوَائِهِ، وَفِي زُمْرَتِهِ، شُهَدَاءَ صَادِقِينَ، عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ دِينِكَ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المزار للمفيد ص95).
اللهم اجعلنا من أهل هذا الدُّعاء.. واختم لنا بحسن العاقبة.
والحمد لله رب العالمين.