د . الشيخ عماد الكاظمي
مقالات تاريخ إسلامي
بعد أنْ تم بيان القراءة الاقتصادية لخطبة الزهراء "عليها السلام" إجمالًا في الحلقة السابقة والمتعلقة بموضوع (الزكاة)، ننتقل في هذه الحلقة إلى بيان تتمة القراءة الاقتصادية على مستوى الفرد والمجتمع، وبيان حاجة الأمة إلى هذه القراءة التي تؤكد كمال النظام الإسلامي في بيان سعادة الإنسان، وتحصين المجتمع من الانحرافات المختلفة، فالشريعة المقدسة وضعت نظامًا وحدودًا من أجل حفظ المال من الضياع والتلف، وفي ذلك رؤية اقتصادية إسلامية متكاملة لقيادة الحياة، فكان مما وردف خطبة السيدة الزهراء "عليها السلام" في المورد الثاني إجمالًا:
٢- قالت "عليها السلام": (فجعل .. وَتَوْفِيَةَ المَكَائِيْلِ وَالمَوَازِيْنَ تَغْيِيْرًا لِلْبَخْسِ).
إنَّ هذا البيان من الزهراء (عليها السلام) في موضوع مهم جدًّا يتعلق ببناء الشخصية وأثرها في السلوك العملي من جهة، والحفاظ على البيع والشراء ضمن الحدود الشرعية من جهة أخرى يؤكد تعاليم الشريعة المقدسة في القرآن الكريم الواردة في هذا الأمر، والتي هي في القرآن الكريم ظاهرة لكُلِّ مسلم ينتمي بعقيدته الخالصة لدينه، حيث قال تعالى في بيان ذلك بكُلِّ صراحة: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)) [المطففين/١-٣] فهذه الظاهرة كانت موجودة آنذاك في المجتمع الجاهلي، وجاء الإسلام بنوره للقضاء على ذلك، والتحذير من عقاب الله تعالى، بل هو تأكيد لأنْ يكون البيع والشراء أو المعاملة التجارية عامة قائمة على نظام لا يكون فيه استغلال للمال بطريقة غير مشروعة، فالغش والسرقة في الميزان أي في المعاملة هو نوع من تلك الأنواع التي تؤدي إلى البخس والظلم، والخسارة في المال في أحد الجانبين، والربح غير المشروع الفاسد في الجهة المقابلة.
فالمعاملات التجارية القائمة على العدالة وعدم الغش والاعتداء إنما لها آثر في الحفاظ على الحالة الاقتصادية للمتبايعين من جهة، والسوق التجاري من جهة أخرى، والبناء الإنساني من جهة ثالثة، والواقع بصراحة يثبت ذلك؛ لذلك كان النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" يتبرأ من العاملين بالغش، بل يؤكد الآثار السلبية لذلك حيث ورد عنه قوله: ((مَنْ غَشَّ أخاهُ المسلِمَ نزعَ اللهُ عنهُ بركةَ رزقهِ، وأفسدَ عليهِ معيشتَهُ، ووكلَهُ إلى نفسهِ))، فلا يخفى الآثار الاقتصادية وتامعيشية الواردة في الحديث الشريف، حيث فساد المعيشة، وذهاب البركة وكل ذلك لها آثاره الاجتماعية كذلك، حيث فقدان الثقة بين المسلمين، وقيام سوق على الانحراف.
فالوفاء بالبيع وعدم البخس هي صورة إيمانية رائعة وحضارية للتاجر الأمين الذي يعمل بصدق مع الآخرين، فيحافظ على أمواله من الحرام وما في ذلك من تحصين للاقتصاد العام والخاص، وحِفْظٍ لحقوق الآخرين المالية من التلف والخسران وما فيه من آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية.
ومن خلال ذلك يمكن معرفة الرؤية الاقتصادية العامة بالآتي:
١- أهمية معرفة الأحكام الشرعية الخاصة بالتجارة عامة، وفي كُلِّ مهنة خاصة؛ ليكون على بينة تامة من أحكام البيع والشراء والإيجار والتبادل التجاري وغيرها، فتكون المعاملة صحيحة ويكون المال فيها حلالًا، ويتم تحصين المؤمن وماله من الوقوع في مخالفة الله تعالى، والتعدِّي على حدوده.
٢- التأكيد على أنْ (سوق المسلمين) يجب أنْ يكون نزيهًا عن الفساد في المعاملات المحرمة، أو القائمة على الغش في البيع والشراء بسرقة الميزان عمومًا، وفي ذلك رسالة اطمئنان إلى الآخرين بنزاهة سوق المسلمين، وتحصينه من ضياع المال وسوء الحالة الاقتصادية فيه.
٣- بيان أنَّ المال له حقوق وواجبات ويجب مراعاة ذلك عند التعامل فيه، بل يجب أداء الحق لكُلِّ صاحب له من دون الانتقاص منه بأي دافع غير معلوم، أو متَّفق عليه؛ لأنَّ فيه ضياع لبعض المال ويعني ضياع للحقوق وأنه صورة من صور الغش والفساد التي تنهى عنه الشريعة المقدسة.
٤- إنَّ تأكيد السيدة الزهراء "عليها السلام" على ذلك يؤكد ضرورة (نزاهة المؤمن) وما يتعلق به من أموال أو تصرفات معاملاتية بهذا الخصوص، وأنَّ الدين لا يقف عن العبادات المعهودة كالصلاة والصيام والحج، بل يشمل كُلَّ تصرُّف من التصرُّفات ومنها البيع والشراء، وحفظ الميزان في ذلك وعدم التجاوز على حقوق الآخرين مهما كان ذلك الحق صغيرًا أو كبيرًا.
٥- إظهار عظمة التشريع الإسلامي في إيجاد السبل النافعة في تحصين المال من جهة، وتربية النفس وطهارتها من جهة ثانية، ونشر الفضيلة في المجتمع من جهة ثالثة، والدعوة إلى بيان مقام تعاليم الإسلام في الأبواب المختلفة للحياة، بما يحقق سعادة الإنسان والمجتمع بحياة طيبة من جهة رابعة، وغيرها من الجهات الأخرى.
مهم قبل الختام (من مصاديق الوفاء بالمكائيل) ..
إنَّ كلمة السيدة الزهراء "عليها السلام" حيث ذكرت توفية المكائيل إشارة إلى حفظ الحقوق بين (المتعاهدين) في أي عمل معيَّن فمثلًا:
- حفاظ الموظف على وقت الدوام والوفاء بالعهد في العمل هو نوع من الوفاء بالمكائيل.
- حفاظ الموظف على الأدوات والأجهزة من أي تلف متعمَّد أو إهمال هو نوع من الوفاء بالمكائيل.
- حفاظ المشير في الاستشارة الصادقة العلمية القائمة على معرفة من دون مصلحة شخصية هي نوع من الوفاء بالمكائيل.
- أداء المسؤول مسؤوليته على أتم ما يكون، والمبالغة في تحسينها وتنظيمها على وفق معرفة هي نوع من الوفاء بالمكائيل.
- معاهدة المعلم لطلابه وتدريسهم جميع الوقت بإخلاص في الصف من غيرٍ ضياعٍ لدقيقة واحدة هي نوع من الوفائل بالمكائيل.
ختامًا..
إنَّ تأكيد السيدة الزهراء "عليها السلام" على هذا النوع من الوفاء في المعاملات التجارية والحفاظ على مال المسلمين من الضياع، ورؤيتها الاقتصادية الخاصة في هذا الجانب لها آثار كبيرة أخرى غير اقتصادية كذلك، ومن أهمها تربية الإنسان على الأمانة والصدق، واجتناب الخيانة والغش والسرقة، وهي رؤية موافقة أو مستمدَّة من الآيات المباركات المتعددة التي تحث على النزاهة في النفس والمال ..
والسلام




تقييم المقال

