قد يكون هذا المقال فيه شيء من الجرأة أو الصراحة المفرطة، ولكنه لا يخلو من الحقيقة، وهو مقال يحاول أن يضع إصبعه على الدمامل في تاريخ الأدب العربي.
في الحقيقة، إن كتب الأدب العربي في المدارس والجامعات والقصد من كتب الأدب –هي الدراسية منها- غالبًا ما تركّز على الشعراء البارزين، وهذا شيء حسن، إلّا أنّهم يصورونهم على أنّهم عظماء في شعرهم وفي حياتهم وفي أنفسهم، وهذا ما خلق صورة نمطية لدى المتلقي والقارئ والمستمع، فما أن يسمع باسم (المتنبي) حتى يقول لك: " المتنبي العظيم"، ومن المؤكّد أنّه لا يقصد شعره فقط، بل كلّ ما له علاقة بشخصيته، وما إن يسمع باسم (أبو تمام) حتى يتبادر إلى ذهنه ما تبادر سابقًا، وكذا مع (الجواهري) و(عبد الرزاق عبد الواحد) و(أحمد شوقي)، وغيرهم كثير ويطول بهم المقام، هذه الأسماء هي التي خلقت الصورة النمطية لدى المتلقي أو القارئ، حتى عندما يتمّ تناولهم في الدراسات وكتب التراجم يصورون لك الجانب الإيجابي منهم، فلا يقول: (كان متزلّفًا للسلطان)، بل ينمّق العبارة ويقول: (اتصل بالخلفاء والسلاطين والقادة)، والمعروف أن الاقتراب من الخلفاء و السلاطين والقادة والحكام، ليس محبّة بهم إنما هو محبة لما في خزائنهم مما يسيل له اللعاب، من صفراء وبيضاء، ذوات الملمس الناعم الرنين الجميل.
لابدّ من الناس أن تعي أنّ أغلب الشعراء -عظمائهم ومهمشيهم- تزلفوا للسلاطين، قد يكون بعض منهم محبة بهم، أو خوفا من بطشهم، لكن الأعمّ كان للسبب الذي ذكر سابقًا (المال)، نعم المال والجاه، المتنبي الكبير لو تصفّحت شعره وجدته مدحًا لسيف الدولة ومن هم على شاكلته هل هذا محبة منه له؟ وهل وصل المتنبي في حبّ سيف الدولة أنّ الأمم لا تصل مقدار ما وصل إليه هو؟ إذ قال:
مالي أكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدَولَةِ الأمَمُ
قطعا لا، ولكن مثل هذا البيت إن سمعه أي شخص منا، أصيب بالزهو والفخر، ومن المؤكّد أنه سيغدق على قائله جزيل العطاء.
وخذّ مثل ذلك: أبا تمام، والبحتري، وأبا نواس، أبا العتاهية -قبل أن يعتزل الدنيا-وقصة (صوت صفير البلبل) خير دليل على تزاحم الشعراء للفوز بما رصده الخليفة المنصور من جائزة.
ومثل هذا كثير في الأدب حتى وصل الأمر إلى بعض شعرائنا اليوم، فالشعراء مراوغون وشحاذون، ومتزلفون للسلطان، ويقولون ما لا يفعلون، إلا ما رحم ربي.
ما أود قوله هنا هو: أنك تحب شاعرًا لعظمة شعره أمر جيد ومستحسن، وأنا من عشاق كل شاعر فحل في شعره عظيم في عطائه الأدبي، لكن أن تقوم بالدفاع عن الشاعر كشخص، أو تدافع لمن وصفه فلان بأنه (شحاذ) فلا، فأنا لا أدافع عن الشاعر نفسه إذا كان متملقًا، بمعنى آخر أنا أحب أبي تمام لعظمة شعره، ولكنني لا أدافع عنه، لأنه متلمق للسلطان وليس عظيما في نفسه.