الانتفاضة الشعبانية في كربلاء كان لها وقع خاص في العراق وبين المحافظات المنتفضة، وذلك لما تتمتع به هذه المدينة من قدسية ورمزية لدى العراقيين، فضلا عن أنها المدينة الأخيرة التي بقيت مقاومة للدولة مدة أربعة عشر يوما، لذا فهي تحمل بين طياتها ذكريات كثيرة، لا سيما من الأشخاص الذين عاشوها ورأوها رأي العين، ومن كتبوا عنها.
كتب الشيخ محمود الصافي (حفظه الله) عن واحد من أبطال كربلاء الذين شاركوا في الانتفاضة وهو (نور الدين كاظم رضا) قائلًا:
ولد نور الدين في عام (1971م)، وهو ابن المرحوم (كـاظم رضا الهندي) الذي نُفذ حكم الإعدام بحقه في (18/1/1995م) والذي كان ثقة العلماء آنذاك كالسيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره)، وهو أحد المشاركين بالانتفاضة الشعبانية فيذكر بعض أحداثها قائلًا: كانت الانتفاضة تسري في نفوس أهالي كربلاء خاصة والشعب العراقي عامة؛ لكثرة معاناتهم من ويلات هذا الحكم الجائر والسياسة القمعية الحاكمة، فضلًا عن معـاناتهم من ويلات الحروب وما تعرض إليه الشعب من أسى وحرمان وترهيب، فكانت أخبار الانتفاضة في المحافظات الجنوبية تصل إلى مسامع أهالي كربلاء، فيعلمون بسيطرة الجماهير على محافظة البصـرة والناصرية والعمارة وهكذا..
وكانت الشـرارة الأولى للانتفاضة في منطقة العباسية، فاتجهت من دارنا برفقة مجموعة من أهالي المنطقة إلى منطقة ما بين الحرمين الشـريفين، واستولينا على النقاط العسكرية الموجودة في شارع أبي الفضل العباس (عليه السلام)، واتجهت جموع المنتفضين بمحورين الأول: دائرة الأمن، والثاني: سجن التسفيرات ومبنى المحافظة، ومن ضمن المتوجهين لدائرة الأمن كان عباس الطويل، وعباس شريف، وكريم ميري.
وبعد أن استولت جماهير الانتفاضة على أسلحة النقاط الأمنية وأسلحة القوات المنهزمة أصبح الجميع مسلحين، وكنت أنا من ضمنهم، وكان فوق محل سيد جلال ساعـاتي سلاحي (بيكي سي وآر بي كي)، فضلًا عن قذائف الهاون التي استحوذ عليها المنتفضون.
واتجهنا بعدها صوب مبنى المحـافظة، فواجهنا مقاومة شديدة من جلاوزة النظام البعثي البائـد، وكان برفقتي عدد من المنتفضين ومنهم: أموري إبراهيم، وعلي ناجي، وبعد قدوم عدد من الجماهير المنتفضة من جهة طويريج بإسناد المنتفضين قـرب المحافظة تمكنا من الدخول إليها في الليل، وفي هذه الأثناء قدم صديق والدي (السيد حسين) -صاحب أزياء ضرغام في منطقة شارع العباس- وأخبرني بوجود ثكنات عسكرية انسحب الجيش منها في محور الرزازة، ودعاني للتوجه إليها والاستيلاء على الأسلحة والأعتدة الموجودة فيها وتوزيعها على المنتفضين؛ لأن الأعتدة أوشكت على النفاد، وعند وصولنا وجدنا كافة أنواع الأسلحة والأعتدة فحملناها بسيارات (الإيفا) العسكرية، ووجدنا أيضًا صواريخ (أرض أرض) مع قواعدها جاهزة للإطلاق، ولكن تبين فيما بعد أن العقل الموجـه لهذه الصواريخ مفقود.
وبدأت الأمور في المدينة بالانتظام، واستقرت الأوضاع فيها ليومين، فانسحبنا إلى بـاب بغداد، ولكن القصف المدفعي للقوات الصدامية بدأ يفتك بأهالي كربلاء المقدسة ومنشآتها، فضلًا عن الدبابـات والطائرات المروحية التي تستهدف الأبرياء من النساء والأطفال بنيرانها، وعند رمي قبة أبي الفضل العباس (عليه السلام) كنت داخل الصحن الشـريف، وكنت أنظر إلى الطائرة المروحية التي ضربت القبة على الرغم من قول الأغلبية بكون دبابة أو مدفع قد ضرب القبة الشريفة.
وكنت حينها حاملًا لسلاح (البي كي سي)، والسيد عبد الأمير طعمة يوجه الناس والمجاميع بالنداءات من الغرفة، وبعد مدة وجيزة رأيت دخانًا أبيضًا ولم أسيطر على نفسـي من قوة الارتجـاج فارتميت في غرفة السيد عبد الأمير، فقال لي: ما بك، فقلت له: أعتقد بأن القبة الشـريفة قد سقطت من هول المدافع، فخرجنا ننظر إلى القبة لنشاهد الصاروخ بداخلها ومحركه يعمل من دون الانفجار، ثم أصيب ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) بمدافع ثلاث دبابات دخلت من منطقة المخيم وواحدة من جهة شارع محمد الأمين، فدار قتال عنيف بين القوات والمنتفضين انتهى بسيطرة المنتفضين على الوضع.
وبعد سيطرة القوات الصدامية على مدينة كربلاء توجهت إلى الدار فوجدت والدي فيه واتجهنا إلى مـدينة طويريج، وفي الطريق التقينا برائد سجاد الدعمي الذي أخبرنا بالتحرك جهة عشائر طويريج، وبالفعل اتجهنا على منطقة أم رواية والرجيبة والمناطق المحيطة بها، فكان الناس يرحبون بنا ووالدي يحفّزهم، فكنا أشبه بحلقة وصل ما بين طويريج وكربلاء.
وشاهد والدي في هذه الليلة حلمًا جعله يروم العودة إلى كربلاء في الصباح، وأخبرني بالتوجه إلى بيت أخي في بغداد وأعطاني (150) دينارًا، ولكني لم أتـركه، فتوجهنا بعد معاناة طويلة إلى مـدينة الحلة، ومنها إلى بغداد ثم الغزالية، وكنت عسكريًا لم ألتحق بوحدتي بعد نشوب الانتفاضة فتوجهت إلى النهروان مكان الالتحاق الجماعي لكل المحافظات، فنُسبت على فرقة مقاومة الدروع.
وفي ليلة الخميس الموافق (14/4/1991م) كنت عائـدًا إلى بيت أخي من الإجازة، فأخبروني باعتقال جلاوزة الأمن العامة في بغداد لوالـدي، وبعد يومين تعرضت للاعتقال في دائرة أمن الكرخ، فوجدت كثيرًا من أهالي كربلاء ومنهم سيد صالح الحكيم، والذين اخبروني بوجود أبي في هذا المكان يوم أمس، فمكثت (7) أيام تقريبًا لحين قدوم عجلة من كربلاء لتنقل السجناء، فنادوا باسمي نور الدين كاظم رضا، فقلت: نعم، فقال: أهلًا بالقائد ابن القائد، كنا نبحث عنك في السماء فوجـدناك في الأرض، فأخـذوني بعجلة (كورلا) ووضعوا رأسي بين أقدامي لحين وصولنا إلى دائرة الأمن في كربلاء، وبعدها نُقلت إلى الرضوانية فوجدت سيد حسين ضرغام، وسيد عبد الوهاب ناصر أبو حدبة، وآخرين، ليتم نقلي فيما بعد إلى السجن المركزي.
كان السجن المركزي يتألف من (4) قاعات، وكان أبي موجودًا في القاعة الأولى، وعند استلام الطعام تُفتح أبواب هذه القاعـات، فتوجهت إلى القاعة ووجدت (محمّد مجير، وكريم مجير) فسألتهم عن والدي وأخبروني بكونه نائمًا، وأيقظته فإذا به يقول لي: لماذا قدمت إلى هنا اذهب قبل أن يعتقلوك، فقد كان يظن قدومي لمواجهته لا بكوني مسجونًا أيضًا.
وأخرجونا في اليوم الثاني للتحقيق وكان أبي يبكي عنـدما يشاهدني في التعذيب، ونحن (11) شخصًا، (6) بنات و(5) أولاد، وكنت أَتألم كثيرًا عندما كانوا يعذبون والدي أمـامي، وكنت كلما أردت المجيء إليه يومئ إليّ أن ابتعد عنه، كي لا يصيبني أذىً.
وفي اليوم التـالي رفعت يدي وقلت للمحقق ( وكان ضابط التحقيق الرائد محمود حينها): أريد أن أعترف بامتلاكي لسلاح كلاشنكوف، وحراستي لمنطقة باب بغداد، فضلًا عن جلبي للطعام والشـراب للناس وحمايتهم، فقال لي: ألم تر أحدًا؛ فقلت لا، وتوجهت لأوقع على أقوالي فإذا بيد تُـربث على كتفي وتقول للضابط هذا نور الدين ابن كاظم الهندي، فمزق الأوراق في الحال وساقني إلى غرفة النقيب (صدام) والعقيد (قاسم)، فكثفوا التحقيق معي ممزوجًا بالتعذيب وطلبوا مني أن أخرج أمـام شاشة التلفاز واعترف بأني زنيت بـ(4) نساء في إحدى غرف الصحن الشـريف -حسب ما كتبوا لي في الأوراق أمامي- ولكني كنت أمتنع عن ذلك فيصعقوني بالكهرباء لكي أتكلم وأعترف بما مكتوب في الورقة، وتكرّرت هذه المسألة لسبع أو ثمان مرّات حتى قال الإعلامي في حينها (غازي فيصل) هذا إما أن يُعدم أو أكتب له اعترافًا ما بأسطر قليلة، وأنتم تريـدون لذلك أن يظهر في الإعلام، فكتب (غازي فيصل) بعض الأسطر بأنني سرقت موادًّ غذائية، وضربت مستشفى الحسين بالقاذفة، وصُوّر هذا الاعتراف، ولكن في اليوم التالي جاؤوا بجريدة إلى السجن وفيها (عرض تلفاز بغداد) أحد زمر صفحة الغدر والخيانة (نور الدين كاظم من سكنة كربلاء باب بغداد، عسكري هارب، قام هو وزمرته بسـرقة المواد الغذائية من الأسـواق المركزية، كما قام هو وزمرته بقتل عددٍ من الرفاق الحزبيين، وقام هو وزمرته بإعدام خمسة عشر رفيقًا حزبيًا، ما بين الهندية وكربلاء)، وعلى إثر هذا بعد أن قرأت الجريدة، أصبت بمرض (الدزنتري) مدة (8) أيام فقد فزعـت وقلت: لكنني لم أتكلم هكذا لماذا يفعلون بي هذا ؟ كان هناك نقيب اسمه (عبد السلام) من الموصل قلت له: سيّدي أرجوك صدقني أنا لم أقل هذا الكلام، فرد عليّ: (أسكت هذا إعلام الدولة مالك علاقة).
وضربني أول ضربة على ظهري وقال لي: اعترف ماذا فعل والدك، ثم ضربني الضـربة الثانية على الرقبة وهذه الضـربة هي التي خلصتني من الإعدام لأنّني على إثرها فقدت الوعي مدة (42) يومًا.
وفتحت عيني في مستشفى الرشيد العسكري، وأبلغني الإخوة المحتجزين أنّه عندما ضُربت أخذوني إلى غرفة وكان المتوقّع لديهم أنّني متّ ولكن النقيب (عبد السلام) سمعني (أشخر) فقال: هذا لم يمت بعد، أخذوه إلى مستشفى الرشيد العسكري.
قاموا بإعطائي جرعات من الإبر، ثم أدخلوني على مـدير الشعبة النفسية العميد الركن (محمّد العبيدي) فأجلسوني أمامه بالكرسي وربطوا يدي (بالكلبجة) وبدأ يسألني، وأنا أفتعل حركات تدل على أنني مجنون، وبسبب هذا التحقيق تعرّضت إلى (3) جرعـات كهربائية (كويات)، وبعد مدة جاء التقرير بأنني مصاب بفصام الشخصية بدرجة (72) بالمئة، بعدها أرجعوني إلى الرضوانية وجاؤوا بأبي لكي يعرفني فلم يعرفني، ولكنني افتعلت بعض الحركات التي كان يفعلها والدي فعرفني وبكى وأغمي عليه في حينها ثمّ بقيت معه في السجن.
ومن بين السجناء الذين كانوا معي، (حسون أبو کشيدة، وسامي النقاش، ورحيم صباح نوري شكر، حيدر محسن)، وانفصلت عن أبي حتى بـدأت عمليات التفتيش من قبل المنظمات العالمية لحقوق الإنسان والهلال الأحمر، فحولونا إلى السجن رقم واحد وفي يوم من الأيام زارت لجنة من الصليب الأحمر الدولي ومن حقوق الإنسان الدولية السجن، فقالوا: إنّ السيّد الرئيس (المجرم) أعطاكم عفوًا عندها قاموا بتسفيرنا إلى دائرة الأمن في كربلاء وكذلك دائرة التسفيرات، فقد كان العـدد هائلاً ومن دائرة الأمن يأخذوننا إلى المحكمة وأنا كنت مستمرًا بـدور المجنون، وهذا ما جعل القاضي يقول: حسب التقرير الموجود في الاضبارة نخرجه بالبراءة، والتقرير يثبت أنّـه مجنون فقرروا الإفراج عني، أما والدي فقدم إلى المحكمة وحكم عليه بالسجن مدة (15) عام، ثمّ أُعدم فيما بعد ([1]).
[1]. يُنظر: الانتفاضة الشعبانية : الشيخ محمود عبد الرضا الصافي ومحمد يحيى الوائلي، ص252-264.