معارف فاطمية -٩- (قراءة اقتصادية في خطبة السيدة الزهراء "عليها السلام" -تتمة-)
كثيرًا ما تُثار في الفضاء الإعلامي المعاصر إشكالات تتهم الإسلام بـ«العنصرية»؛ لا على المستوى النظري كما يقرّ به خصومه أنفسهم، بل على المستوى العملي كما يُدّعى. ويُستدل على ذلك بجملة من النصوص والأحكام الشرعية، من قبيل تشريع الخُمس، وتخصيص سهمٍ لفقراء بني هاشم، وفهمٍ مبتور لبعض الآيات القرآنية، وصولًا إلى الطعن في مفهوم الإمامة والاصطفاء الإلهي، وقياسها على نماذج البرلمانات والدساتير الحديثة.
غير أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في النصّ الديني ذاته، بل في منهج القراءة الذي يُسقَط على النصّ، وفي الخلط بين مفاهيم متغايرة جذريًا:
بين الكرامة والوظيفة، وبين الاصطفاء الإلهي والتمييز العنصري، وبين التشريع الرباني والنظم الوضعية البشرية.
أولًا: معيار التفاضل في القرآن الكريم
يقرر القرآن الكريم – بنصٍّ محكمٍ قاطع – أن معيار التفاضل عند الله سبحانه وتعالى ليس العِرق ولا النسب ولا الانتماء القبلي، بل التقوى بوصفها علاقة عبودية خالصة بين الخالق والمخلوق، فقال تعالى:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)
وهذه الآية ليست شعارًا أخلاقيًا تجميليًا، بل قاعدة قرآنية كلية حاكمة، انسجمت مع العقل والنقل والفطرة السليمة معًا. وقد أكّد القرآن هذا المعنى حين نزع الامتياز عن الدم والنسب، وخاطب الإنسانية جمعاء بقوله:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)
وهنا يبرز السؤال الجوهري:
هل توجد آية واحدة في القرآن تجعل الكرامة عند الله بالنسب؟
والجواب – بلا تردد –: لا.
بل إن القرآن يذم العصبية والحمية الجاهلية، ويعيد تعريف الكرامة تعريفًا تعبديًا أخلاقيًا، لا عِرقيًا ولا قبليًا.
ثانيًا: الروايات الشريفة وتكريس مبدأ نفي الامتياز النسبي
جاءت الروايات المعتبرة لتؤكد هذا الأصل القرآني. ومن أوضحها ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال:
قال لي الإمام أبو جعفر محمد بن علي (عليهما السلام):
«يا جابر، بلّغ شيعتي عني السلام، وأعلمهم أنه لا قرابة بيننا وبين الله، ولا يتقرب إليه إلا بالطاعة له.
يا جابر، من أطاع الله وأحبنا فهو ولينا، ومن عصى الله لم ينفعه حبنا…» (١)
وهي رواية صريحة في نفي أي امتياز نسبي، وتقرير أن الطاعة والعمل الصالح هما مدار القرب الإلهي.
ثالثًا: ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾… قراءة السياق لا اجتزاء النص
يستدل بعضهم بقوله تعالى: ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ زاعمًا أنها تحمل روحًا عنصرية واستعلاءً عِرقيًا. غير أن هذا الفهم يسقط بمجرد قراءة الآية في سياقها الكامل:
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139)
فالآية نزلت في سياق تعزية المؤمنين بعد أُحد، ورفع معنوياتهم بعد الهزيمة النفسية، وجعلت العلو مشروطًا بالإيمان، لا بالنسب أو العِرق.
وقد أوضح العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي هذا المعنى في تفسير الميزان، مبيّنًا أن العلو هنا هو علو الثبات والصبر والتقوى، لا تفوقًا عِرقيًا أو طبقيًا (٢).
رابعًا: الخُمس… تشريع عدالة لا امتياز عنصري
الخُمس فريضة ربانية نصّ عليها القرآن الكريم صراحة، فقال تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (الأنفال: 41).
والفقه الإمامي – بل والفقه المقارن – يقرر أن الخُمس يُصرف في جهتين:
* سهم الإمام: لمصالح الدين والناس بإذن الفقيه الجامع للشرائط.
* سهم السادة: لفقراء بني هاشم وأيتامهم وأبناء سبيلهم فقط، لا لكل من انتسب.
وقد خُصّ فقراء بني هاشم بهذا السهم لأن الله حرّم عليهم الزكاة، فجعل لهم بدلًا تشريعيًا آخر، فلا يكونون بلا مورد عند الحاجة. فالأمر تعويض تشريعي لا امتيازًا عِرقيًا.
خامسًا: سهم الإمام… ولاية صرف لا ملكية شخصية
القول بأن المراجع «يتملكون الخُمس ويورثونه لأبنائهم» دعوى بلا بيّنة، ويكذبها منطق الفقه ونصوص الفتاوى. فسهم الإمام ولاية صرف لا ملكية شخصية.
وقد صرّح السيد السيستاني (دام ظله) قائلًا:
[الخُمس نصفان: نصف للإمام المنتظر (عليه السلام) يُصرف فيما يُحرز رضاه، ونصف لفقراء وأبناء سبيل الهاشميين المؤمنين…] (٣)
ومن يدّعي التملك أو التوريث فعليه الدليل القطعي، وإلا كان قذفًا في الذمم.
سادسًا: حديث الدار والإمامة… منطق الاصطفاء لا العنصرية
أما حديث الدار وتولية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فليس عنصرية ولا محاباة نسبية، بل نصٌّ واصطفاء إلهي.
فالإمامة في مدرسة أهل البيت منصب إلهي، لا انتخابًا برلمانيًا، ولا وظيفة بشرية قابلة للتصويت. وقد قرر القرآن أن صغر السن لا يمنع الاصطفاء الإلهي، كما في قوله تعالى:
﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: 12) وقوله على لسان عيسى (عليه السلام):﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم: 30)
فعند أبناء العامة
حديث الدار بسند صحيح كل رجاله ثقات فقد وراه الطبري في تهذيب الآثار ج 4 ص 56.
قال : وحدثنا أحمد بن منصور ، قال : حدثنا الأسود بن عامر ، قال : حدثنا شريك ، عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي ، قال : لما نزلت هذه الآية : « وأنذر عشيرتك الأقربين » قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أهل بيته ، فاجتمعوا ثلاثين رجلا ، فأكلوا وشربوا ، وقال لهم : « من يضمن عني ذمتي ومواعيدي ، وهو معي في الجنة ، ويكون خليفتي في أهلي » ؟ قال : فعرض ذاك عليهم ، فقال رجل : أنت يا رسول الله كنت بحرا ، من يطيق هذا ؟ حتى عرض على واحد واحد ، فقال علي : « أنا » (٤)
وعند الشيعة الإمامية :
وذكره الشيخ الطوسي في التبيان، فليس دعوى مذهبية بلا أصل.
وقال الشيخ الطوسي في التبيان: والقصة بذلك مشهورة, فإنه روي أنه أمر (صلى الله عليه وآله) علياً بأن يصنع طعاماً ثم دعا عليه بني عبد مناف وأطعمهم الطعام ثم قال لهم: أيكم يؤازرني على هذا الأمر يكن وزيري وأخي ووصيي, فلم يجبه أحد إلا علي (عليه السلام) والقصة في ذلك معروفة (التبيان8/67).
وعليه، فالطعن بالعنصرية خلط بين اختيار الأقرباء لمجرد القرابة (وهو مرفوض)، وبين الاصطفاء الإلهي لمقام ديني (وهو ثابت بالنص الإلهي المبين ).
الخلاصة
1. الإسلام نفى التفاضل العِرقي وجعل التقوى معيار الكرامة.
2. ﴿وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ﴾ خطاب تثبيت مشروط بالإيمان، لا تفوقًا عِرقيًا.
3. الخُمس تشريع عدل، لا امتياز طبقي.
4. سهم الإمام ولاية صرف، لا ملكية شخصية.
5. الإمامة نص واصطفاء، لا إسقاط دستوري حديث.
والحمد لله رب العالمين.
زاهر حسين العبدالله
المصادر
(١) الأمالي – الشيخ الطوسي – ص ٢٩٦
(٢) تفسير الميزان – السيد الطباطبائي – ج ١٨ – ص ٢٤٨
(٣) الموقع الرسمي للسيد السيستاني
(٤) الطبري، تهذيب الآثار – ج ٤ – ص ٥٦




تقييم المقال

