مقدمة :
في زمنٍ تتسارع فيه الأسئلة، ويُعاد فيه تعريف المفاهيم الدينية بلغةٍ تختزل العمق الرسالي في إطارٍ تاريخي جامد، يبرز سؤال شديد الحساسية في الوعي المعاصر:
هل انتهت النبوّة بوفاة النبيّ الأعظم محمد ﷺ، أم أن الذي انتهى هو صلتنا نحن بمنهجها وهدايتها؟
هذا السؤال ليس نظريًا ولا عابرًا، بل يمسّ جوهر الإيمان ومعنى الرسالة. فالصدّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، في خطبتها الفدكية، لم تتعامل مع النبوّة بوصفها حدثًا زمنيًا، بل قدّمتها كمشروع إلهي سابق للوجود، حين قالت في توصيف مقام النبيّ الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
[ أشهد أن أبي محمدًا عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتبله، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة].(١)
هذا النص ينسف الفكرة السطحية التي تجعل النبوّة وليدة ظرف اجتماعي أو استجابة لواقعٍ مُعيّن، ويثبت أنها قرار إلهي مؤسِّس للوجود، لا طارئًا عليه.
ومن هنا، تبيّن الزهراء (عليها السلام) أن وظيفة النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن مجرّد التبليغ اللفظي، بل إقامة مشروع هداية شامل، يعالج الإنسان في عمقه الفكري والأخلاقي والاجتماعي، فتقول:
[ ابتعثه الله تعالى إتمامًا لأمره، وعزيمةً على إمضاء حكمه، وإنفاذًا لمقادير حتمه… فأنار الله بمحمدٍ ظلمها، وكشف عن القلوب غُممها، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية] .
النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم – وفق هذا البيان – لم يكن مصلحًا جزئيًا، بل قائد تحول حضاري، نقل الإنسان من العماية إلى البصيرة، ومن الفوضى إلى النظام، ومن عبودية الأشياء إلى عبودية الله سبحانه .
ولم تترك الصديقة الزهراء (عليها السلام) تصوير حال البشرية قبل النبوّة للتخيّل، بل وصفته بواقعية قاسية، كاشفة حجم الانهيار الإنساني آنذاك:
[وكنتم على شفا حفرةٍ من النار، مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام… أذلّةً خاسئين، تخافون أن يختطفكم الناس من حولكم].
إنها إنسانية مسحوقة، يسودها الجهل والذل والتيه، فجاءت النبوّة لا لتضيف طقوسًا، بل لتُعيد بناء الإنسان من الجذور.
غير أنّ السؤال الأخطر لم يكن: ما هي النبوّة؟وهل تنتهي بستشهاد النبي الأكرم (ص)؟
الخطبة الفدكية تجيب بوضوح وغير مباشر: المشكلة لم تكن في غياب النبي جسدًا، بل في فصل الرسالة عن امتدادها الطبيعي. ولهذا تشير الزهراء (عليها السلام) إلى موقع الإمام علي (عليه السلام) بوصفه الامتداد الرسالي، فتتحدث عن دوره في حماية مشروع النبوّة بقولها:
[كلّما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرنٌ للشيطان، قذف أخاه في لهواتها حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه].
فالرسالة التي تُرفع بالوحي، لا يحملها إلا لمن تربّى في حجر النبوّة، وصيغت روحه بالإيمان. المتمثلة في أمير المؤمنين علي عليه السلام .
وتبلغ الزهراء (عليها السلام) ذروة خطابها حين تحذّر الأمة من عاقبة الانفصال عن هذا الامتداد، فتخاطب الضمير الجمعي بلهجةٍ تقرع القلوب:
[ألا وقد قلتُ ما قلتُ على معرفةٍ مني بالخذلة التي خامرتكم… (وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون)].
إنها ليست صيحة غضب، بل بيان إدانة تاريخي لانقطاع الهداية عن مسارها الصحيح.
وعليه، فالنبوّة لم تنتهِ، والرسالة لم تُغلق، لكن الخلل بدأ حين تحوّلت الهداية من مشروع يُحتَضَن ويُحمَل، إلى ذكرى تُستهلك وتُقدّس بلا التزام بتعاليمها ولا سيرا بهديها وطاعة لمن نصت به أن يكون من بعدها من الأئمة الهادين المهدين التي لن تضل الأمة ، إذا تمسكت بها حيث قال النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم [ إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ] (٢)
النبوّة ليست تراثا ولا الخطبة الفدكية نصًا للبكاء، بل دعوة مفتوحة لكل جيل:
إمّا أن يحمل الرسالة، أو يضيّعها.
والحمد لله ربّ العالمين.
زاهر حسين العبدالله
وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ٢٧ - الصفحة ٣٤
مصادر:
(١)بحار الأنوار – العلامة محمد باقر المجلسي، جزء 29 / صفحة [ 224]
(٢) وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ٢٧ - الصفحة ٣٤




تقييم المقال

