مثلما انقسمت الكنيسة الأم سابقا الى شرقية (آرثذوكسية) وغربية (كاثوليكية) حصل انقسام آخر على مستوى الكنيسة الغربية الرومانية (الكاثوليكية)، فبعد أن ثار الراهب مارتن لوثر على ما عدّها انحرافات في كنيسة روما تبعته حركة احتجاجية كبيرة انضم إليها كثير من الرهبان والجماهير، حتى حصل تحول كبير على المستوى الديني والاجتماعي، نتج عنها الطائفة البروتستانتية، التي انتشرت في ألمانيا والمملكة المتحدة وايرلندا وفي الدول الاسكندنافية وأغلب مناطق الأمريكيتين الشمالية والجنوبية.
طالب القسيس الألماني وأستاذ اللاهوت المسيحي بتأكيد العلاقة بين الله والإنسان دون وساطة الكنيسة، إذ اعترض على ظاهرة ما تسمى بصكوك الغفران التي ظهرت في الديانة المسيحية الكاثوليكية منذ القرن الحادي عشر وانتشر بعد ذلك مع نشوب الحروب الصليبية، وطالب بإنهائها من خلال رسالته الشهيرة التي تألفت من خمس وتسعين نقطة، وكان لوثر بهذه الرسالة وقف موقفا مضادا لسلطة البابا المطلقة، مفتتحا مرحلة جديدة للمسيحي عن طريق علاقته المباشرة مع الله من غير وساطة الكنيسة الكاثوليكية، وهو ما أدى لاحقا الى ولادة المذهب البروتستانتي، الذي انشق من الكاثوليكية.
لقد تبنت حركة الإصلاح اللوثرية الوقوف بوجه النظرة التقليدية لتفسير الدين، التي كانت حكرا على الكنيسة ورجالاتها المتماهين مع توجهاتها الكلاسيكية، إذ أعطى مارتن لوثر الأسبقية للإيمان على العقل، ((فكل ما يحتاج الإنسان معرفته عن مسائل الإيمان موجود في نصوص الكتاب المقدس. ولا يحتاج المسيحيون آباء الكنيسة ومجامع الكنيسة ولا البابا لكي يخبروهم عما يؤمنون به، كذلك، لم يثق لوثر بالتأويل القصصي الرمزي أو الفلسفي للكتاب المقدس. لذا، فهو لا يرى افتراضاته الخاصة في تأويل الكتاب المقدس، والشيء الوحيد الذي نحتاج معرفته، حقيقة، هو ان الله أظهر عن نفسه للإنسان الذي هو المتلقي المذعن لنعمة الله، [...] ورأى لوثر أن الإيمان وحده هو وسيلة التبرير الوحيدة عند الإنسان، إذ ورد: "تذكر ما قيل، نعني أن الإيمان وحده ومن دون اعمال يبرر ويحرر ويخلص"))[1].
رأى لوثر أ القوانين البابوية قد عذّبت أكثرية الناس، تلك التشريعات التي لم تكن تعبّر عن جوهر الدين وأصالته الربانية المتصالحة مع المنطق (العقل) والضمير الإنساني الحر، ولم تكن متماشية مع النصوص المقدسة حسب تعبير لوثر، فدعواه الإصلاحية كانت تسير وفق إملاءات النصوص الدينية المسيحية ولم تكن بدعا من القول، يقول لوثر: ((فأنا مصمم على النصوص المقدسة التي استشهدت بها وبما يمليه عليّ ضميري الذي هو أسير لكلمة الله))[2].
وكان رجال الكنيسة يمنحون صكوك الغفران التي تُعد منحا للمغفرة الى العوام من المسيحيين مقابل قدر من المال يقدمه هؤلاء الى الكنيسة ممثلة بالبابا، واستُغلت هذه الصكوك لجمع الأموال وتكديسها في جيوب الكهنة والقسيسين على حساب جمهور المسيحيين، واستُثمرت هذه الأموال أيضا في بسط سيطرة الكنيسة على المجتمعات والدول الأوربية عن طريق بناء الدور والكنائس وشراء النفوذ وسى ذلك.
قام لوثر بحركة مناهضة للأفكار البالية اللامنطقية، وطرح فكرة أن إيمان المسيحي لا يحتاج الى وساطة رجل الدين حتى يكون مقبولا عند الله، فالخالق يغفر الذنوب ويُدخل عباده رحمته وجنانه دون الحاجة الى الغفران الكهنوتي السائد لدى الكاثوليك، وهذا ما سبب هجمة شرسة ضد لوثر، متهمين إياه بالهرطقة (البدعة).
ومثل وليام الأوكامي (1285 – 1349م) سلفا فكريا لمارتن لوثر، إذ كان اسميا تصوريا، وأن الموجود الحقيقي خارج وعينا (العقل) هو المحسوس الخارجي( المتشيّئ وفق قوانين الفيزياء التقليدية)، فالتصورات لا وجود لها إلا في عقولنا كمفاهيم مجردة، ونحن نفكر بالأشياء المحسوسة الجزئية المشكلة خارجا وكذلك في الأشياء العقلية، وعلى ذلك فلا أساس موجود للتفكير اللاهوتي المتعكز على الكليات، وأن علاقتنا بالله وكل شيء لاهوتي لابد أن تكون جميعها قائمة على نصوص الكتاب المقدس، وهذا ما شكل عقبة أمام سلطة الباب المطلقة، وأن تفسير النص الديني لم يعد حكرا على رجل الدين، بل أصبح متاحا بشكل ديمقراطي أما الجميع، وكان وليام الأوكامي قائلا بالاختيار أيضا[3].
ومما ينبغي قوله أن لوثر لم يكن أول من دعا الى الإصلاح الديني في أوربا، ولم يكن أول من تحدى بابا الكاثوليك وسطوته الدكتاتورية، إذ سبقه أربعة مصلحين أوربيين، فرنسي وانكليزي وبوهيمي (تشيكي) وإيطالي، لم يكتب لهم النجاح في مساعيهم، وتمت محاكمة هؤلاء المصلحين وقاموا بعزلهم عن الكنيسة، فدعوات هؤلاء كانت في زمن ينتمي الى العصور الوسطى الذي يغلب عليه الجمود الديني وسيطرة رجال الدين سيطرة أقوى كثيرا مما كانت عليه في عصر مارتن لوثر، وقد جُمع هؤلاء المصلحون الأربعة بمعية لوثر في نصب تذكاري شيد في القرن التاسع عشر في مدينة فورمس الألمانية من قبل البروتستانت، يقف لوثر في منتصف النصب، فهو أكثر من اشتهر اسمه والتصق بحركة الإصلاح الديني في أوربا؛ لأنه أحدث تغييرا اجتماعيا وحصد تأييدا سياسيا حتى صارت البروتستانتية تُحسب له، وكان بيتر والدو الفرنسي أقدم من عمل على حركة التصحيح الديني، فقد عاش في القرن الثاني عشر الميلادي وكان تاجرا ثريا، تخلى عن كل ما يملك ليخرج بنفسه كالمسيح وحوارييه سائحا في الأرض داعيا الى الله، لكن والدو لم يحصل إذنا بالتدريس هو وأتباعه من قبل البابا، لكنه ألقى الدروس هو وأتباعه دون موافقة السلطة البابوية مستعملين تراجم لبعض النصوص المقدسة باللهجات المحلية، بعدها أصبحوا جماعة دينية لها أتباع ينتشرون جنوب إيطاليا وفرنسا، أُطلق عليهم (الولدينيسيين أو مساكين ليون)، واتهموا بالهرطقة بعد انتقادهم بذخ الكنيسة وإسرافها في بعض الشرائع الكاثوليكية، مما جعلهم منبوذين من الكنيسة عام 1184م، ورغم ذلك نجت هذه الجماعة من محاكم التفتيش بهجرتها الى مناطق أخرى من أوربا، ولاسيما في مناطق قروية بين جبال الألب، وهناك أسسوا كنيسة صغيرة خاصة بهم، وانضم أغلبهم لاحقا الى حركة الإصلاح الديني البروستانتية، أما ثاني المصلحين فكان جون ويكليف الإنكليزي المتوفى سنة 1384م، المحاضر في أكسفورد وأول مترجم للإنجيل الى الإنكليزية، ارتبط اسمه بثورة الفلاحين التي حصلت عام 1381م، شكك ويكليف بأحقية الكنيسة في سيطرتها على الأملاك العائدة الى الفلاحين، حتى اُتهم بالهرطقة نتيجة لما سبق ذكره، وأدانه البابا وجامعة أكسفورد بانحراف معتقداته، وقيل أنه عانى العزلة مدة عامين حتى حدثت له سكتة دماغية قبل وفاته عام 1384م، وبعد دفنه في الكنيسة نُبش قبره وأُخرجت عظامه لتُحرق وتُذر في نهر السويفت بأمر البابا مارتن الخامس، مع ذلك لم تنتهي أفكار ويكليف، إذ تأثر بها التشيكيون الذين درسوا في جامعة أكسفورد، وعادوا بها الى براغ، ليطّلع عليها هناك جون هس، ثالث المصلحين السابقين لمارتن لوثر، الذين نُقشت أسمائهم على نصب فورمس التذكاري، واختير هس ناطقا باسم حركة الإصلاح الديني، وفي عام 1402م اُختير هس رئيسا لجامعة براغ، ونُصّب الواعظ الرئيس في كنيسة بيت لحم الممولة بتمويل خاص، ومن منبر تلك الكنيسة هجم هس على صكوك الغفران والانتهاكات البابوية، ليُطرد بسبب ذلك من المجمع الكنسي بعد مرسوم بابوي بحرمانه، وفي عام 1414م استدعوه ليمثل أمام المحكمة، وسجن عام بعد اتهامه باعتناق أفكار ويكليف التي أدانها المجلس الكنسي، وبعد تعرضه للسخرية والإذلال أُحرق بالنار يوم 6 يوليو 1415م! ونُثر رماد جثته في نهر الراين! فثار أتباعه التشيكيين على الكنيسة الرومانية وملك تشيكوسلوفاكيا، أما رابع المصلحين فكان جيرولامو سافونارولا (1452 – 1498م)، وهو راهب دومنيكي حُرم كنسيا وأُعدم بعد محاولاته تحويل فلورنسا الى جمهورية مسيحية ملتزمة، وكان هؤلاء الأربعة الذين سبقوا لوثر يشتركون معه في أنهم دعوة الإصلاح عندهم إنما كانت تستند الى الإنجيل، فترجموا أجزاء منه الى اللغات المحلية؛ ليتسنى للعامة أن يفهموه بأنفسهم دون وساطة الكنيسة[4].
ولو عدنا الى مارتن لوثر نجده قد أعطى الأولوية للإيمان على العقل، وكل شيء يحتاجه المسيحي يجده في الكتاب المقدس، وهو ما يعني استغناء عن الباب والكنيسة عموما، وحصر لوثر السطلة بالكتاب وحده، والشيء الوحيد الذي نحتاج معرفته هو أن الله تعالى قد أظهر عن نفسه للإنسان الذي هو المتلقي المذعن لنعمة الله، وإيماننا يمكنّا من الاتصال المباشر بالله[5].
وهنالك مقاربة في فكر مارتن لوثر تقارب كثيرا الفكر الأشعري في علم الكلام الإسلامي، فعنده أن الله هو من جعل الخير خيرا والشر شرا، أي أن الخير والشر لا حقيقة عقلية لهما، بل هما من تصنيف الله تعالى وتوقيفه، لأن القول بهما عقليا يستلزم أن الله مقيد بمعيار أخلاقي! وبالتالي فإن الله عند لوثر غير محكوم بمعايير وقواعد فوق إرادته تعالى، وإن قلنا بالخير والشر العقليين فإننا صرنا كمن وضع خالقا فوق الخالق!! وهذا تناغما مع مذهبه في تقديم الإيمان على العقل، وعجز العقل من دول النص الديني عن أن يكون قاضيا يفصل في قوانين الأخلاق، وهذه المذهب يعرف بمذهب الإرادة الأخلاقي اللاهوتي، الذي يمثل الركيزة الثانية بعد الاسمية الأوكامية، هاتين الركيزتين أوصلتا الى عدم وجود مبادئ أخلاقية يجب على الله أن يتبها ويسير وفقها، وأن الأخلاق المسيحية أرساها المذهب الإرادي اللاهوتي الذي يرجعها الى إرادة الله وتقديره[6].
[1]- تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة الى القرن العشرين، غنار سكيربك و نلز غيلجي، ترجمة: د. حيدر حاج إسماعيل، مراجعة: نجوى نصر، توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت – لبنان، ط1، 2012م: 307.
[2] ـ مارتن لوثر (مقدمة قصيرة جدا)، سكوت إتش هندريكس، ترجمة: كوثر محمود محمد، مراجعة: هبة عبد العزيز غانم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، مصر، ط1، 2014م: 16.
[3] ـ ينظر: تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة الى القرن العشرين: 305 – 306.
[4] ـ ينظر: مارتن لوثر: 18 - 21.
[5] ـ ينظر: تاريخ الفكر الغربي: 307.
[6] ـ ينظر: المصدر نفسه: 308.