البحث المتقدم

البحث المتقدم

أوغسطينوس.. القديس الذي أوصلته محطات الانحراف إلى الله

12 تقييم المقال

 

من يتمعن في سيرورة التاريخ اللاهوتي المسيحي يجد أنه مدين الى القديس أوغسطينوس كثيرا، إذ لم يصل ذلك اللاهوت الى ما هو عليه لولا اشتغالات هذا الحكيم وجهوده الكبيرة في تثبيت دعائم المسيحية، ورفع قدرتها على مواجهة المتغيرات والمنعطفات والمطبات الفكرية والعقدية التي واجهتها طوال قرون الألفية الأولى من الميلاد وما بعدها بقرنين أو ثلاث! وربما لا نبالغ إن قلنا إن أوغسطينوس يمكن عده كأعظم لاهوتي عرفته المسيحية في التاريخ! حتى أن هذه المكانة العظيمة والمرموقة جعلت منه محطة تنازع بين بعض الطوائف المسيحية على الرغم مما بينها من اختلافات؛ فالكاثوليكية تدعي أنه السلف الأصيل لها، في حين ترى البروتستانتية أنها امتداده ومذهبه الحقيقي.

ولد فيلسوفنا في عام 354م في بلدة نوميديا الواقعة في الجزائر حاليا، كان أبوه وثنيا! أما أمه فقد كانت مسيحية متدينة، وقد عملت على تنشئة ابنها على أن يكون انسانا محبا للدين والمسيح، نشأ الحكيم أوغسطينوس طالبا لمعرفة الحقيقة، وأول ما اتجه له الكتاب المقدس لعله يمده في ذلك، لكنه لم يجد فيه ما يريده ويبتغيه، وهذا ما جعله يميل عنه وينفره؛ لما رآه من مجانبة كبيرة من النصوص مع الواقع، كل ذلك جعله ينجذب الى المانوية ويتبناها، فاعتنقها وهو يرى أنه ما زال على المسيحية التي غذته بها أمه عبادة وإيمانا[1].

وهكذا فإن بداية هذا الحكيم كانت حياة مادية جانحة تجاه الشهوات والملذات، بعد أن حصلت له ردة فعل من النص الديني المتمثل بالعهدين القديم والجديد، أي التوراة والإنجيل معا، وطغت على حياته النزعة المادية الحسية، التي جعلت منه لا يعترف إلا بما يحسه بجوارحه وما تقدمه المادية على طبق من ذهب أمام حسه وتجربته! حتى قرر أن يبتعد عن كل ما هو متعالي وروحاني عن حياته ويركز على اللعب واللهو وتحقيق كل الرغبات الجسدية! ويتحدث عن ذلك في اعترافاته بالقول: ((تصاعد دخان رغبات جسدي الدنيئة التي غطت كالسحب قلبي وأظلته حتى لم أعد أميز بين الصفاء والواضح للحب وغشاوة الهوى والشهوة))[2]، فهو بهذا قد اختلطت عليه الأمور والطرق والحلول، وراح يتموج بفعل التيارات الحسية يمينا وشمالا بلا استقرار، ويقول عن نفسه: ((فانغمست في شهوتي وظللت وتناثرت أشلائي، هويت في بئر الدعارة))[3].

وهذا المنهج جعله يذهب الى أبعد من انكار الدين، فقد أنكر وجود الإله الخالق أيضا! وما دام أننا لا نستطيع أن ندرك هذا الإله المفترض إذن فلا وجود له ولا حقيقة متعالية توجد؛ لأنه يصعب على حواسنا إدراكه[4]، لكنه بعد حين رأى في المانوية ربما ملاذه من خلال إبقائها على ملذاته من جانب، ومن جانب آخر مراعاتها لظمئه الوجودي وتوقه الروحي والمعنوي المتمثل بالدين، ولاسيما وأنه اعتبر المانوية وجها أو مذهبا من مذاهب المسيحية!

وكان حكيمنا في بداية شبابه قد تعرّف على فتاة فتزوجها وأنجبت له ولدا، وهذا الشيء يعتبر ((كأول خطيئة في حياته مخالفة لما ربته أمه عليه))[5]، وعلى ما يبدو فإن الحياة الحسية والمادية التي عاشها أوغسطينوس ربما هي من أثرت في قناعاته وآرائه في النص الديني، فهو بعد مطالعاته للكتاب المقدس بتشجيع ودفع من أمه المتدينة استهزأ كثيرا بنصوصه، ورأى أنها لا تقنع إلا الأطفال والعجائز! بل راح الى أكثر من ذلك عندما رجح النصوص الشعرية والأدبية والخطب على النص الديني! وجعلها بمرتبة أعلى منه؛ لأن نصوص العهدين ـ بحسب ما يرى أوغسطينوس ـ كانت فاقدة للمتانة والمنطقية والإبداع! وقد وصف النصوص المقدسة بالقول: ((بدا لي أنه لا يستحق حتى مقارنته بكتابات تولي العظيمة))[6]، وتولي هو الخطيب الروماني الشهير.

رافق أوغسطينوس المانوية مدة تسع سنين، أي بقي معها الى الثامنة والعشرين من عمره، وقد قرأ كل ما كتب عن المانوية تقريبا، والمانوية ديانة قامت في بابل على يد ماني بن فاتك (ت 276م)، وقد ((أحدث دينا بين المجوسية والنصرانية وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام [...] وكان في الأصل مجوسيا عارفا بمذاهب القوم، إن الحكيم ماني زعم ان العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والآخر ظلمة وأنهما أزليان لم يزالا ولن يزالا))[7]، والمانوية تنقسم إلى طائفتين: الأولى وهي طائفة المقربين الصديقين، وهؤلاء بحسب الديانة المانوية لا يحل لهم الزواج ولا أكل الحيوان! أما الثانية فهم عوام المانويين، وهؤلاء يحرم عليهم أكل الحيوان فقط، أما الزواج فلهم الخيار فيه، وقد حكم عليه حاكم بابل بالإعدام بعد ادعائه النبوة، إذ كان يقول: ((الآن أرسلني الله من بابل حتى تصل دعوتي الى العالم أجمع))[8].

وكما ذكرنا فإن حكيمنا إنما اعتنق المانوية لتضمن له التمتع بالجانب الشهواني، فضلا عن ميوله الدينية وظمئه الانطولوجي! إلا أنه لم يكن راضيا عن حالته هذه، إذ يقول: ((يا رب أعطيني الوداعة والعفة لكن ليس الآن))[9]، فهو إنما قال ذلك لأنه يدرك أن الدين يمنع من يؤمن به عن فعل الموبقات والمحرمات ويؤكد على العفة والابتعاد عن الزنا وما شابه ذلك.

وكان أوغسطينوس قد التقى بالزعيم المانوي فستوس الميلي، وكان متحمسا لهذا اللقاء كثيرا، فلعله يزيل عنه المبهمات التي أرقته وأتعبته، ولم ينكر أوغسطينوس براعة فستوس، وكان اللقاء معه قد شكل انعطافة في حياة أوغسطينوس؛ لأنه معه اكتشف أن ما كان ينحاه من منهج وفكر كان مجرد سفسطة لا أكثر! يقول في ذلك: ((كتبهم كانت مليئة بالأكاذيب والخرافات المضجرة عن السماء والنجوم والقمر، لم أعد اعتقد أنه كان بإمكانه أن يعطيني إجابات مرضية عن ما كنت أرغب في معرفته أو يستطيع مقارنة ما كان يقوله بالحسابات والتقديرات التي قرأتها في كتب أخرى))[10]، ويقول في مكان آخر: ((فستوس الذي أوقع كثيرين في فخ الموت هو ذاته الذي حل ربطي مع هذه الجماعة، دون علم أو قصد))[11]، وبهذا خرج أوغسطينوس من المانوية بعد خداع استمر تسعة أعوام.

إن ما مرّ به أوغسطينوس وتجاربه السابقة جعلته لا يأمن لأي معرفة أو منهج، وبالتالي صار شكوكيا بكل شيء! حيث يقول: ((كنت مثل طفل يثرر ويهذي عن أمور مشكوك فيها، معتبرا إياها حقائق؟ ولم أدرك أنها بطلان إلا مؤخرا))[12]، هذا الشيء حصل مع من هو على درجة عالية من العقلية والفهم والمستوى العلمي الرفيع! هذا الذي كان كثيرا ما يتباهى بشرح النصوص الصعبة لأرسطو وفك مغلقاتها المعقدة، يبين ما مر به في اعترافاته بالقول: ((أما أنا فقد اتبعت تخيلاتي وأفكاري عن الماديات والجسديات التي أنهكتني كثيرا كما لو كنت أختنق من شدة وطأتها علي))[13].

وبعد تركه المانوية ومعاناته الشكية قرر الهجرة الى روما طلبا للدراسة والبحث، ومثلما كان الزعيم المانوي سببا في جعل أوغسطينوس يتركها فإن الشكوكية نفسها أوصلته الى نتيجة مهمة جدا، ربما يصح لنا أن نسميها الكوجيتو الأغسطيني، وهو كوجيتو سبق الكوجيتو الديكارتي بأكثر من ألف عام! ويتحدث عن كيفية وصوله الى تلك النتيجة بقوله: ((فإذا قالوا: ماذا لو كنت مخطئا في طريقة استدلالها؟ أرد عليهم: حسنا، إذا أخطأت فأنا موجود، ذلك لأنه يتعذر على شخص غير موجود أن يقع استدلاله في الخطأ. وعليه بيّن بذاته أنه إذا أخطأت فأنا موجود))[14].

وهنالك تعرف على فلسفة أفلوطين، حتى احتاج أحد ملوك ميلانو معلما للبيان والخطابة فانتُدب أوغسطينوس لهذه المهمة، وبعدها بمدة حصل له لقاء مع امبروزيوس أسقف ميلانو، الذي انجذب حكيمنا إليه لما وجد عنده من أخلاق وبلاغة وخطابة[15]، كما أن أمه التي لم تكن على علم بسفره الى روما قد لحقت به، مما أضاف عاملا آخر ربما ساهما في إرجاع الرجل الى رشده وأصله القديم، الأصل الذي كانت أمه قد ربته عليه وهو الإيمان بالمسيح والاندكاك بالسلوك الديني، وجاءت هذه العودة بعد بحث عميق ودراسة مضنية.

لقد رجع اوغسطينوس الى الكاثوليكية ولكن بمعتقدات توحيدية، فعقلية كعقلية أوغسطينوس لابد لها من تفكير طويل لاستيعاب ذلك، ولأجل ذلك فقد اعتزل في بلدة قرب ميلانو عزلة تامة، وراح يتأمل كثيرا ويعيد النظر في حياته السابقة وأفكاره القديمة، وهذا الشيء واضح وجلي في الفصول الأولى من كتابه الذي عنونه بـ (الاعترافات)، وقد اتسمت تلك الكتابات ((بالضجر والقلق وحالة التمزق الداخلي التي عانى منها سابقا))[16].

وفي العام 391م عاد الى وطنه، وتحديد مدينة (عنابة) التي تعهد فيها الدفاع عن المسيحية بالحجج والأدلة ضد الهجمات الفكرية والعقدية التي استشرت في وقته، حتى تسنم حكيمنا منصب أسقف الكنيسة الأبرشية، الذي بقي فيه الى أن وافته المنية وهو في السادسة والسبعين من عمره، أي في العام 430م بعد إصابته بالمرض، وكان آخر طلب له في حياته وهو على فراش الموت أن يكتبوا مزامير التوبة على الحائط الذي كان مجاورا لسريره، وكان يقرأها ودموعه تسيل قبل أن تخرج روحه الى السماء، مودعة جسدا تمرغ في شهواته أولا، ثم عاد الى بارئه بتوبة نصوح، مات حكيمنا وقد ترك تراثا وصل أغلبه وضاع القليل منه[17].

وتوزعت مؤلفات فيلسوفنا بين الدفاع عن المسيحية ضد الوثنيين والملاحدة، ومناظرة الطوائف والفرق المنحرفة، ومن كتاباته ما كانت تؤرخ لحياته، ودبج كتبا فلسفية وجدلية متنوعة، وله أيضا كتابات لاهوتية مهمة وشروحات سامية لأسفار الكتاب المقدس، وكتب رسائل عديدة تحدث فيها بوجدان وعاطفة جياشة.

 

[1] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط، د. يوسف كرم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012م: 25.

[2] ـ الاعترافات، أوغسطينوس أوريليوس، ترجمة: برتي شاكر، دار النشر الأسقفية، القاهرة، ط5، 2011م: 25.

[3] ـ المصدر نفسه: 25.

[4] ـ ينظر: المصدر نفسه: 14.

[5] ـ أوغسطينوس مع مقدمات في العقيدة المسيحية والفلسفة الوسيطية، د. علي زيعور، دار اقرأ، ط1، 1983م: 100.

[6] ـ الاعترافات: 39.

[7] ـ الملل والنحل، أبو الفتح الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت548هـ)، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، (د.ط)، (د.س.ن): 1/ 244.

[8] ـ موسوعة الأديان القديمة (معتقدات آسيوية)، كامل سعفان، دار الندى، مصر، ط1، 1999م: 138.

[9] ـ موعظة على الجبل، القديس أوغسطين، ترجمة: القس بشرى كامل، مطبعة الكرنك، الاسكندرية، (د.ط)، 1962م: 14.

[10] ـ الاعترافات: 73.

[11] ـ المصدر نفسه: 74.

[12] ـ المصدر نفسه: 87.

[13] ـ المصدر نفسه: 80.

[14] ـ أوغسطين، جاريث ماثيو، ترجمة: أيمن فؤاد زهري، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 1984م: 61.

[15] ـ موعظة على الجبل: 15.

[16] ـ أطلس الفلسفة، بيتر كونزمان وآخرون، ترجمة: جورج كتورة، المكتبة الشرقية، ط2، 2007م: 69.

[17] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة السياسية من ثيوكيديس حتى اسبينوزا، ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، ترجمة: محمد سيد أحمد، مراجعة: إمام الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، 2005م: 267 ـ 268.

نعم
هل اعجبك المقال