بداية أقول، إن أي كيان نشأ عن فكر عنصري متطرف، واعتمد أسلوب العدوان، يستحيل عليه الوجود والبقاء، وسط دول غير مستعدة لقبوله تحت أيّ ظرف، على أُسُسِه التي أوجدته، مهما أوتي من قوة، ولنا في التاريخ المعاصر مثال النازية التي ابتدعها هتلر، وكان هدفها الهيمنة على العالم بأسره، كيف انهزمت، ولم تقم لها قائمة، بسبب عدوانيتها، وأفكارها العنصرية التمييزية.
الكيان الصهيوني هو من ذلك التصنيف في الشذوذ عن القيم الإنسانية، ومنذ تأسيسه لم يتورّع من ارتكاب جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، الذي وجد نفسه في مواجهته، لكنّها مواجهة غير متكافئة، لكيان فاق النازية في سلوكه العدواني العنصري - بحيث لم تعًد دعوى الهولوكوست تعني شيئا أمام ما اقترفته قطعان وحشيّته - مُصرّ على تنفيذ مخططاته، غير عابئ بمعارضة دول العالم، الممضية على مواثيق التعايش الإنساني، متحديا لها رغم قراراتها الأممية الصادرة ضدّه والمدينة لأعماله، والتي بقيت مُعلّقة حبرا على ورق بلا تنفيذ ، بسبب حاضنته من الدّول الغربية التي احتمى بها، وبقي تحت ظلها مُحصّنا، وهي واقعا أساس وجوده، ينعم منها بالمساعدات المالية والعسكرية وبالتأييد السياسي.
هذا الكيان ارتكب مئات المجازر بحق الأبرياء من الشعب الفلسطيني، منذ أن خرجت بريطانيا من أرض فلسطين، بعد احتلال لم يدُم سوى عشرين سنة (1920/1948) (1) تاركة له أسلحة جيوشها، بعد استعمارها البغيض للمنطقة، ولو أننا أحصينا عدد تلك المجازر - وهي محصية فعلا - لما أمكن في هذا المقال القصير استيعابها كلها، لكننا سنشير إلى أكثرها دمويّة وضحايا، لتكون دليلا على إجرام هذا الكيان وانعدام إنسانيته.
لم تكن مجزرة دير ياسين الأولى، في تعداد وتاريخ مجازر الكيان الصهيوني، فقد سبقتها مجازر أخرى، لكنّها لم تكن بحجم وضخامة دير ياسين (1948)، وهنا أتينا على ذكر المجازر الأكثر ضحايا ودموية ووحشية، ثم قبية (1953)، وقلقيلية (1956)، وكفر قاسم (1956)، وخان يونس (1956)، وتل الزعتر(1976)، وصبرا وشاتيلا (1982)، والمسجد الأقصى (1990)، والحرم الإبراهيمي (1994)، ومخيّم جنين (2002)(2)، لعلّ أكثرها بشاعة ما نفذته القوات الصهيونية من إبادة للاجئين الفلسطينيين بصبرا وشاتيلا بلبنان، متحالفة مع قوات الكتائب اللبنانية (سمير جعجع) وجيش لبنان الجنوبي (أنطوان لحد)، ما يشير بوضوح، إلى أنّ هذا الكيان المجرم، لا يتورّع في ارتكاب أيّ جريمة، يراها بحسب تقديره، تساعده على خلق حالة من الإرهاب حوله، تمنع من الإقتراب منه، والتفكير في مقاومته.
ومازال هذا الكيان إلى اليوم ينفّذ عملياته العسكرية داخل الأراضي المحتلة وخارجها، ونادرا ما يمرّ شهر، دون تسجيل عدوان جديد على سوريا، يستهدف نقاطا معيّنة، حسب الإحداثيات التي يتلقاها من عملائه، واليوم وبعد عملية طوفان الأقصى، التي أحدثت زلزالا حقيقيا داخل الكيان الصهيوني، يراه العالم بأسره شعوبا وحكومات، يقترف كل يوم مجازر إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة، نسف فيها أحياء كاملة، بمن فيها من السكان المدنيين، أظهرت من خلال إحصائياتها أنّ أغلب ضحاياها من الأطفال والنساء، همجيّة صهيونية فاقت كل تصوّر، دون أن يصدر من مجلس الأمن - دعيّ حقوق الإنسان - قرار يكون عادلا في انصاف الغزّاويين.
هذه الإعتداءات المتكرّرة والمتواصلة، تؤكّد تماما أن هذا الكيان لا يمكنه أن يبقى موجودا محتلا أرضا ليست له - وقد استولى عليها بمؤامرة بريطانية مدبّرة- من دون أن يرتكب مجازر، بحق من يراهم أعداءه، ويشكلون خطرا على استمرار وجوده، طالما أنّه لا يملك حقّا بالأساس في وجوده على أرض فلسطين، كيان يفرض نفسه على المنطقة وهو غريب عنها، كيف سيكون مستقبله فيها، إنّما هي محاولات يائسة، وإن تدنّت نسبة نجاحها، فقد بات مؤكّدا أن هذا الكيان قد بدأ في حفر قبره بيده.
يمكن القول اليوم وبعد كل الذي حصل مؤخرا، بأننا بلغنا مرحلة النهاية، في مواجهة هذا الكيان العنصري الغاصب، وجميع المؤشرات على الميدان، تؤكّد على حقيقة واحدة، وهي أن أرض فلسطين يستحيل أن يتعايش فيها كيان مجرم، لا يتورّع في العدوان على من يعتبرهم أعداءه، كلما وجد فرصة للقيام بذلك، وقد تيسّر له تكرار اعتداءاته داخل فلسطين وفي لبنان وسوريا حتى الفلسطينيين الذين لجأوا الى تونس لاحقهم هذا الكيان ونفّذ ضدّهم غارة على (مقر منظمة التحرير في ضاحية حمام الشط بالعاصمة التونسية، بوابل من القنابل، وهو ما أدى إلى سقوط 68 قتيلاً وأكثر من 100 جريح من فلسطينيين وتونسيين، إضافة إلى تدمير المقر بالكامل وبعض منازل المدنيين في المنطقة حدث ذلك في 1/10/1985 (3)، وهي اعتداءات لم يكن بمقدوره أن يقوم بها لولا موافقة أمريكا ودول الغرب، الذين لهم مصلحة في وجوده وتمركُزِه بمنطقة الشرق الأوسط، وبقائه مهيمنا على أرض فلسطين.
لقد تبيّن للعالم اليوم طبيعة هذا الكيان الغاصب، ومدى توحّشه، فقد تعرّى تماما أمام دول العالم وشعوبها، ولم يعد يستره شيء من دعوى دفاعه عن وجوده، أو أنّه يمتلك حقّا بالتصرّف بمثل ما نراه كل يوم مكرّرا، من قصف عشوائي لأحياء مأهولة بالسكان، ومستشفيات لم تسلم هي الأخرى من عدوانه، ولم تعد دعاياته ولا ادعاءاته تنطلي على شعوب العالم، التي هبّت في كل مكان مناصرة للفلسطينيين المظلومين - وقد بلغ الظلم بحقهم مبلغا لم يعد بالإمكان السكوت عنه - مطالبة بوقف المجازر المرتكبة بحق أفراده، هذا من الجانب المعنوي.
أمّا من الجانب الماديّ الحقوقي، فإنّ المقاومة بكافة فصائلها، في غزة ولبنان واليمن وسوريا والعراق، أكّدت اليوم أنّها جديرة بأن تحمل القضية بقوّة، لتصل بها إلى هدف تحرير فلسطين، هذا الهدف أصبح قريبا، مقارنة بتاريخ الصراع القائم، منذ أن قام الكيان الصهيوني، ففيما مضى لم يكن هناك مواجهة حقيقية قامت بين الفلسطينيين وهذا الكيان المجرم، وقد أحدث طوفان الأقصى هذا التحوّل الجذري، ليدخل الفلسطينيون باب المواجهة المباشرة مع عدوّهم.
لقد برهن هذا الكيان بقوّاته المدججة بمختلف أنواع الأسلحة المتطورة، أنه عاجز عن مواجهة المقاومين الفلسطينيين بأسلحتهم الأقلّ نوعية، بما يعني أن هناك فارق كبير بين الجانبين، وشتّان بين من غرباء الديار، يحاربون من أجل بقائهم محتلّين، وبين أصحاب الأرض الذين أمسكون القضية بقبضات أيديهم معتمدين على أنفسهم أوّلا، وحملوا أسلحتهم التي قدّمتها لهم إيران، وقناعتهم الوحيدة التي أصبحت راسخة في عقولهم، أن أرضهم لا تتحرّر بغير قوّة، لهذا نرى اليوم الفلسطينيين قد أخذوا بزمام مصيرهم بأيديهم، وقد تبيّن لهم أنهم قادرون على تحقيق الإنتصار على عدوّهم، وأنّ هذا العدوّ الصهيوني ليس في وسعه أن يتحمل الحدّ الأقصى من الخسائر، وعليه فإن نهايته أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الحقيقة، ويدرك الفلسطينيون اليوم أنهم ليسوا وحدهم في معركتهم المصيرية، وهذا ما يشحذ هممهم للمضي بإرادة نحو هدفهم النهائي.