في ثمانينات القرن الماضي توافد ملايين المصريين للعمل في العراق لسد الفراغ الذي تركه الشباب الملتحقين بالخدمة العسكرية او الجيش الشعبي أثناء الحرب مع إيران، وكان يعمل بمعيتي احد الشباب المصريين بعنوان سائق ( مصطفى )، وكان ما يميزه انه يختلف عن الكثير عن أقرانه من حيث الشكل والهندام والانطواء وغيرها من الأمور التي ربما يفتقدها البعض بمثل هذا العنوان، وكان بسن متقارب لعمري إلا انه يتحاشى التقارب والاختلاط ولا يتدخل في شؤوني و يتحدث بقدر ما اسأل وملتزم تمام الالتزام بواجبات العمل والدوام، وشكل بالنسبة لي لغزا كنت أتحمس لفك طلاسمه فاستعنت بشقيقه ( ابراهيم ) بعد أن علمت انه يعمل بوظيفة حسابية في قسم يديره صديقي وطلبت منه أن يخبرني بما يعرف عنه، فأعلمني بان أخيه كان يشغل وظيفة مهمة في ( دمياط ) حيث يدير أمور زوجته التي تمتلك مصنعا كبيرا للأثاث ولكنها وصلت معه إلى طريق مسدود كاد يؤدي إلى الطلاق لولا تدخل الخيرين، ووجه الخلاف بينهم انه يفرط في تعاطي المخدرات لدرجة انه يغيب عن الوعي لأيام وقد فشلت كل محاولات علاجه من هذا الداء، حتى توسط بينهم المقربين بإيجاد حل ممكن لهذه المشكلة بإقناعه للسفر والعمل في العراق لان فيه يمكنه الإقلاع باعتباره بلدا خاليا تماما من المخدرات وبذلك سيعيش حالة من التأهيل التي تتطلب الصبر الكبير، وبقي مصطفى بمعيتنا لثلاث سنوات ثم عاد إلى مصر وهو قادر على البدء من جديد، ويقال انه شفي وتعافى من المخدرات وعاد لعائلته وزوجته بسلام والله اعلم بما حدث فيما بعد، والقصد من هذه القصة هو التذكير بان بلدنا كان واحدا من البلدان الخالية من المخدرات لا مرور ولا إنتاج ولا تعاطي ولا تداول بأي شكل من الأشكال، وتشهد على ذلك المنظمات الدولية التي كانت تطالب بتخفيف عقوبة الإعدام التي كانت تفرض على كل من له علاقة بالمخدرات.
ولكن بلدنا تحول بعد ( التحرير ) إلى موطن لعبور المخدرات وتجارتها وزراعتها وصناعتها وتعاطيها بأنواعها من حبوب الكبسلة والحشيش والكريستال والهيروين وغيرها من الأنواع والأشكال، والدولة تحاول معالجة واقع المخدرات التي يأتي اغلبها من ( الأرجنتين ) من خلال عمل الأجهزة الأمنية التي تعلن باستمرار عن فعاليات عديدة في المتابعة والقبض على العديد من عصابات الترويج والكشف عن المتعاطين ونصب الكمائن للمهربين ومن نتائجها السيطرة على عشرات او مئات الكيلوات غرامات منها والملايين من حبوبها، والحقيقة التي لا يمكن تغطيتها بغربال إن المؤثرات العقلية والمخدرات موجودة وتدار بطرق مختلفة وتدخل الحدود وتنتشر في البلاد او تخرج منه بطرق من الصعوبة السيطرة عليها بشكل كامل رغم الجهود المعقدة المقرونة بمختلف التضحيات التي تبذلها الجهات الأمنية بهذا الخصوص، ومشكلة المخدرات وما يندرج في تسميتها إنها قابلة للانتشار السريع والبعض ينظر إليها بشكل خاطئ عندما يدخلها بنظرية المؤامرة فحسب، حين يرددون إن بعض الجهات المعادية تريد إفساد شعبنا بالمخدرات كهدف سياسي، وليس بإمكاننا رد التهم عن تلك الجهات، ولكن الأمر الواقع إن المخدرات باتت ( تجارة ) في العراق وهي تجارة مربحة إلى حد كبير وتدر الكثير من الأموال، وتجارها غالبا ما يروجون النوعيات الرخيصة والرديئة لان الكثير من المتعاطين حديثي العهد بالموضوع ولا يميزون بين النوعيات، وسواء كان المروجون ( سرسرية ) او ( خوش ولد ) فأنهم يستهدفون الربح السريع ( والربح هنا تعبير مجازي )، فيحاولون الوصول إلى الفئات الهشة من المجتمع سواء من الذكور او الإناث لتحقيق أعلى الإيرادات، لذا فإنهم يستهدفون التجمعات الشبابية بالذات ( المدارس ، الجامعات ، المقاهي ، الكافيات ، الملاهي والنوادي الليلية ، غيرها )، وهم في بداية الأمر يعرضون بضاعتهم بأسعار منخفضة او بالأجل كوسيلة لاستدراج ضحاياهم نحو الإدمان، لان الإدمان هي غايتهم لفرض أية أملاءات أخلاقية او في الأسعار او في توسيع الترويج.
وأكثر ما نخشاه من التعاطي هو الإدمان ( Addiction )، ويعني إضعاف قدرة الإنسان عن الإقلاع بسهولة وبشكل يتطلب تداخل علاجي ومساندة اجتماعية وإرادة قوية ، في ظل احتمالية إن يتم بلوغ الإدمان بمعزل عن معرفة العائلة وبما يوفر الفرص للهروب والجنوح والشذوذ كوسيلة للابتعاد عن الأمر الواقع، والإدمان في العراق يعد من المشكلات الكبيرة لأسباب عديدة، منها ندرة المراكز المتخصصة بالمعالجة في بغداد والمحافظات كما إن مثل هذه المراكز من الصعوبة تبنيها كاستثمار من قبل القطاع الخاص، وحسب معلوماتنا إن مركز ابن الرشد في بغداد هو من ابرز المراكز المعني بهذا الشأن ويتسع لعدد قليل من المرضى لا يتجاوز العشرات اخذين بالاعتبار إن الشفاء يحتاج لمدة طويلة تمتد لأسابيع او شهور لضمان عدم النكوص او العودة، فالعودة للتعاطي محتملة في ظل انتشار المروجين وما يمارسونه من ضغوطات وسهولة المتعاطين السابقين والحاليين في الاستدلال على أماكنهم وطرق إخفائهم وتواجدهم، كما إن العلاج من الإدمان لا يتناسب مع الإمكانيات المادية للعديد من العوائل التي تعاني الفقر والعوز والجوع والتي قد تضطر لترك المدمن لكي يواجه قدره المحتوم حتى وان تبرءوا منه، ومن الناحية العلمية فان المؤثرات والمخدرات هي من أسرع الأشياء التي تسبب الإدمان بتكرار تعاطيها لمرات، وما يسترعي الاهتمام إن بعض هذه المواد لا تباع بأسعار عالية ف ( الحبة ) يتمكن طالب المتوسطة ( مثلا ) من شرائها من مصروفه اليومي في حالة خضوعه لترغيب او ترهيب او توريط الزملاء من المتعاطين او المروجين.
إن الهدف ليس إخافة المجتمع ونشر الذعر فيه وإنما دعوة العوائل الكريمة لإبداء الحرص في متابعة سلوك الأفراد بمختلف الاعمار والأجناس ( سيما في الاعمار والمراحل الحرجة ) ففي ظل الانتشار الذي نسمع عنه للمخدرات فان هناك احتمال الوقوع في حباله، والمتابعة ليس بأسلوب تجسسي وبفقدان الثقة وإنما استكشافيا للاطمئنان على الجماعة التي يتفاعل معها والبيئة الدراسية او بيئة العمل والتغير الذي يحدث في العادات والأنماط السلوكية بما في ذلك عادات الأكل والنوم والخروج والمكالمات والحالة الصحية، وهي إجراءات احترازية وتشكل واجبا للعائلة فيما بينها جميعا ونقصد الأب وإلام والزوج والزوجة والإخوة والأخوات، والرصد المبكر يمنح الإمكانية لتلافي الانحرافات ومعالجتها، في حين إن الإدمان ينشا صعوبات بالغة لكونها ظاهرة مرفوضة ويحاول الكثير التستر عليها لان فيها بعض من وصمة العار، ويجب عدم التقليل من أهمية بعض الأمور كالطلب المتكرر للنقود من قبل الأبناء او لجوئهم لتبديل وبيع وشراء مقتنياتهم، والقصد هو التأكد بان المصروفات تذهب لما هو مبرر ومشروع ، ومن الأمور التي يتم النصح بها هي محاولة إبعاد الأبناء عن التدخين المبكر لأنه إحدى الوسائل التي يتم استخدامها للاستدراج في بعض أنواع المخدرات باعتبارها سهلة الاستعمال ومن الصعوبة تمييزها وغير مكلفة بشكل كبير، وينبغي من العوائل إبلاغ الأجهزة المعنية عن أية حالة من ترويج وتعاطي المخدرات يتم الكشف عنها لان في ذلك وسيلة لتقويض الانتشار الذي لا يمكن القضاء عليه كليا، لأنه جزء من مشكلة كبيرة ترتبط بجوانب كبيرة نشأت وترعرعت بطريقة دخيلة نتمنى إن تزول في اقرب الاوقات.