البحث المتقدم

البحث المتقدم

الحداثةُ السائلةُ وأبناءُ المرجعِ الأعلى

0 تقييم المقال

 

يقولُ محمودُ درويشَ: «لا يُعجبني في الحبِّ سوى البداياتِ».

وكأنَّ هذا القولَ يُلخّصُ ملامحَ زمنٍ باتت فيهِ البداياتُ أكثرَ سحرًا من الاستمرارِ، والاندفاعُ أقوى من الثباتِ.

في زمنٍ يتسرّبُ فيهِ كلُّ شيءٍ من بينِ أصابعِنا — العواطفُ، العلاقاتُ، الأحلامُ، والمعتقداتُ — حتى الحياةُ نفسها أصبحت أقربَ إلى الماءِ منها إلى الصخرِ؛ مرنةً، متحوّلةً، لا تحتفظُ بشكلٍ واحدٍ طويلًا.

 

هذهِ الحالةُ يصفُها عالمُ الاجتماعِ زيجمونتُ باومانَ بمصطلحِ «الحداثةِ السائلةِ»، وهي مرحلةٌ من تطورِ الحداثةِ انتقلَ فيها العالمُ من حالةٍ “صلبةٍ” ذاتِ مؤسساتٍ ثابتةٍ وقيمٍ مستقرةٍ، إلى حالةٍ “سائلةٍ” سريعةِ التبدّلِ، هشّةِ الروابطِ، متقلبةِ الإيقاعِ.

 

في هذهِ الحداثةِ الجديدةِ، لم تعدِ الهويّةُ إطارًا دائمًا بل مشروعًا مؤقتًا يُعادُ تشكيلُه في كلِّ لحظةٍ، ولم تعدِ العلاقاتُ تستندُ إلى الالتزامِ بل إلى المصلحةِ، ولا الطموحاتُ إلى الثباتِ بل إلى الحركةِ المستمرةِ.

 

إنَّ إيقاعَ الحياةِ تغيّرَ حقًّا؛ كلُّ شيءٍ يسيرُ بسرعةٍ، لكنه لا يبقى في مكانِه.

نبدأ مشروعًا بحماسٍ، ثم يُطفئُ المللُ جذوتَه سريعًا.

نُقبل على الزواجِ، أو الدراسةِ، أو العملِ، فنصطدمُ بأولى العقباتِ فنرتدُّ دون مواجهةٍ، وكأنَّ الصبرَ صارَ رفاهيةً من زمنٍ مضى.

نملك مئاتِ الطرقِ، لكنَّ معظمَها غيرُ معبَّدٍ؛ نحمل الكثيرَ من الأحلامِ والطموحاتِ، لكنها تتوقفُ قبل أن تكتملَ.

لذلك تتكاثرُ حالاتُ الانفصالِ، وتضعفُ الصداقاتُ، وتتآكلُ قيمُ المودةِ والتسامحِ.

الكلماتُ ما زالت موجودةً في القواميسِ، لكنّها فقدت معناها في الحياةِ اليوميةِ.

 

في الحداثةِ السائلةِ يُلقى على الأفرادِ عبءُ «إعادةِ اختراعِ الذاتِ» باستمرارٍ، لأنَّهم فقدوا الهياكلَ الاجتماعيةَ التي كانت تساندُهم.

لم تعد هناك منظوماتٌ قيميةٌ أو مؤسساتٌ أخلاقيةٌ صلبةٌ تحفظُ الإنسانَ من التشتّتِ، فصارَ كلُّ فردٍ مشروعًا مؤقتًا يبحثُ عن توازنٍ في عالمٍ لا يؤمنُ بالثباتِ.

 

لكن، وسطَ هذا التيارِ المتقلّبِ، يبرزُ نموذجٌ آخرُ يُذكّرُنا بأنَّ الثباتَ لا يزالُ ممكنًا.

أولئك هم أبناءُ المرجعِ الأعلى؛ الجيلُ الذي تربّى في ظلالِ الحكمةِ والإيمانِ، على أيدي رجالٍ جمعوا بين العقلانيةِ والورعِ، وبين الانفتاحِ على العالمِ والتمسّكِ بالثوابتِ.

في وجوهِهم نرى اتزانًا يفتقدُه كثيرونَ، وفي علاقاتِهم نلمحُ عمقًا يندرُ في زمنِ السرعةِ.

يتعاملون مع الحياةِ بعقلٍ منضبطٍ وقلبٍ مطمئنٍّ، لا يهربون من المشكلاتِ، بل يصبرون ويجدون حلولَها.

يُشكّلون حضورًا روحيًا يُعيدُ إلينا الإحساسَ بجوهرِ إنسانيتِنا، ويُذكّرُنا بأنَّ الارتباطَ بالقيمِ العُليا يمنحُ الإنسانَ جذورًا لا تقتلعُها العواصفُ.

 

أمامَ هذا المشهدِ، يحقُّ لنا أن نسألَ أنفسَنا:

إلى أين نمضي بهذهِ السرعةِ؟

هل ما نهرولُ نحوه هو ما نريده فعلًا؟

وهل طريقُنا يقودُنا إلى أولئك الذين اقتدينا بهم من الأئمةِ والأنبياءِ، أم أننا نضيعُ في دوامةِ السيولةِ؟

 

في عالمٍ يذوبُ فيهِ المعنى بسرعةٍ، يظلُّ الثباتُ على المبدأ هو الحداثةُ الحقيقيةُ التي نحتاجُها.

نعم
هل اعجبك المقال