كانت الدولة الرومانية في أوج قوتها وعظمتها وكانت آلهتها الوثنية هي السائدة بين الشعوب وكانت هذه الشعوب تعتقد بقدرة هذه الآلهة لأنهم يرون قوة روما من قوة آلهتها، في هذه الحال كان ولابد ان يحصل حدث بحجم يفوق ما يعتقده الناس ويفوق قوة روما وآلهتها، فكانت ولادة السيد المسيح الاعجازية وما صاحبها من معاجز كفيلة في لفت نظر الناس إلى أن هناك قوة أخرى تفوق كل قوى آلهة روما مجتمعة، فإذا كانت هذه القوة (الله) قادرة على أن تُخرج نبيا من دون أب ويتكلم في المهد صغيرا، فماذا باستطاعة آلهة روما أن تفعل.
وقد احدثت ولادة السيد المسيح بهذه الطريقة لغطا واضطرابا عظيما لفت نظر قيصر روما فشعرت روما بالخطر على مكانة آلهتها فطاردت السيد المسيح منذ أن كان صبيا لتقتله، وتصدى لذلك القيصر شخصيا بالتعاون مع اليهود الذين شهدوا هذه الولادة الإعجازية، فأوعز إلى واليه أن يفعل ذلك وهذا ما نقرأه وبكل وضوح : ( ولما ولد يسوع في أيام هيرودس الملك اضطرب هيرودس وجميع أورشليم معهُ، فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم : أين يولد المسيح، ثم أمرهم قائلا: اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، فظهر ملاك الرب وقال: قم وخذ الصبي وأمهُ واهرب، أن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه).(1)
وهكذا فشلت المحاولة الأولى لقتل السيد المسيح وهو في المهد صبيا، واختفى لمدة ثلاثين عاما ثم ظهر ليقوم بتبليغ رسالة ربه. ولما فشلت محاولة قتل السيد المسيح الثانية ورفعهُ الله إليه، عمدوا إلى تشويه صورته وديانته واتلفوا إنجيله ثم اشاعوا بأن الذي جاء هو (المسيح الدجال). ثم قاموا بخلق ديانة على مقاسات روما وقيصرها بالتعاون مع كهنة اليهود. فلم يكن للمسلمين اي دور في اختراع شخصية الدجال كما يزعم بعض أرباب الفضائيات الذين يوهمون الناس بأن المسلمين هم من اخترع هذه الشخصية.
يقول بعض النصارى بأن الانجيل لم يذكر اسم الدجال بهذه التسمية إنما هي تسمية إسلامية، فهم من اخترع الدجال لأن في المسيحية هناك شخص سيظهر منتحلا صفة المسيح أطلق عليه الانجيل لقب (ضد المسيح). وأما الدجال فهو دجال المسلمين الذي سيظهر ويقتله المسيح.
وهذه محاولة فاشلة منهم، لأن التوراة والإنجيل والقرآن لم يذكرا (الدجال) بهذا الاسم ولكن كل الأديان ذكرته بأوصاف وتسميات مختلفة من خلال اقوال ووصايا الأنبياء، وكلها تلتقي مع اللقب الأكبر (الدجال). ففي حديث ورد عن رسول الله (ص) يقول فيه: (ما من نبي إلا وحذره أمته من فتنة الدجال، وأنا أحذركم إياه، فأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وإنه خارج فيكم لا محالة). (2)
ونسى هؤلاء القساوسة بأن اسم الدجال ظهر مئات المرات على السنة كل من فسّر الكتاب المقدس من قساوسة ورهبان وعلماء وقديسين وغيرهم وكأن هذا الاسم التصق بحنجرة المسيحية كما سنقرأ. ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن على طول الزمان فتن خطيرة قادها دجالون فقد قال النبي (ص): (ما بين خلق آدم عليه السلام إلى قيام الساعة أكبر من خلق الدجال أي أكبر فتنة وأعظم شوكة من الدجال. ((3) ولكن الأمم تجاوزتها بصبرها وجهادها. فعلى طول الزمان كانت هناك فتن ابتدأت مثلا بصراع بين هابيل وقابيل ادت إلى القتل وهي أول حالة قتل في البشرية آنذاك ثم استمر مسلسل الفتن إلى ان تتوج آخر الفتن على يد آخرهم الدجال الأكبر الذي سوف تجتمع فيه كل آثام الأمم وتجاربها السيئة ويكون خطره أكبر من كل الفتن التي حصلت، والأنبياء عندما كانوا يُحذرون اممهم من شرّه وخطره، فلم يقولوا ان الدجال سوف يظهر في زمانهم بل كان الأنبياء يُحذرون اممهم من شروره فلم يكونوا يعلمون زمان حضوره، ولكن إن توفرت له العوامل المساعدة والبيئة المناسبة فإنه سوف يخرج. فلم تكن أي امة تعلم ان الدجال منها إلا بعد أن ظهرت المسيحية فتبين أن الدجال سيظهر من قلب هذه الأمة المسيحية وأن عقائدها المزيفة الباطلة المحرّفة أفضل بيئة لنشوء الدجال. ولذلك تخبرنا الأناجيل بأن السيد المسيح حذّر امته منه لأنهُ سوف ينتحل شخصيته ويتكلم باسمه، وأنه الوحيد القادر على تمييزه وقتله. فرُفع المسيح أو مات حسب عقيدتهم ولم يقتُل الدجال فعُلم أن ذلك سيحصل في مستقبل الزمان عند العودة الثانية للمسيح عليه السلام، ولذلك نرى بروز اسم الدجال يظهر بكل وضوح على السنة علماء المسيحية على مختلف مذاهبهم واشتهر اسمه ولقبه بـ (المسيح الدجال) كما سوف نرى.
من علماء المسيحية القدماء المشهورين القديس هيبوليتوس أسقف روما قتل عام 235 قال: (قام المسيح من بين العبرانيين، وهو المسيح الدجال سينبثق من اليهود).
وقال القديس زينوبيوس المقتول أيضا سنة 303: (المسيح الدجال، ابن الهلاك سيولد في كوروزين، وفقا لما قاله ربنا يسوع في الإنجيل (ويلٌ لك يا كورزين ويلٌ لك يا كفرناحوم، ستهبطين إلى الهاوية للمسيح الدجال ألف معجزة على الأرض سيجعل العميان يرون، والصُم يسمعون، والعُرج يمشون والموتى يقومون). (4) أي أن الدجال سوف ينتحل أيضا حتى معجزات السيد المسيح ولابد أنه سوف يظهر في ذروة تقدم العلوم لكي يقوم ببعض ما قام به السيد المسيح.
وقال القديس جيروم: (سيولد المسيح الدجال بالقرب من بابل).
وقال القديس كيرلس الأورشليمي: (سيتفوق المسيح الدجال في الخبث والانحراف والشهوة والشر والقسوة والهمجية والوحشية على جميع الرجال ومن هنا يطلق عليه بولس: رجل الخطيئة ابن الهلاك الشرير). (5) فبقوته العظيمة ومكره وخبثه ينجح في خداع ثلثي الجنس البشري. وسيعذب الاخيار بوحشية مستخدما جميع أدوات التعذيب القديمة والمخترعة حديثا بحيث يفوق جميع مضطهدي البشرية السابقين مجتمعين. ويُجوّع حتى الموت كل من يرفضونه.
هم عندما يرمون فرية اختراع شخصية المسيح الدجال برقبة المسلمين ذلك بسبب محاولة اخفائهم لحقيقة مرّة تفيد بأن المسيحية افرخت أكثر من مسيح دجال او ما يطلقون عليه (ضد المسيح) وهذا ما أنبأ به السيد المسيح عندما جمع حوارييه وحذرهم قائلا: (سيقوم مسحاء كذبة ويُعطون آيات عظيمة وعجائب). (6) وبعد رحيل السيد المسيح بفترة قصيرة عجّت المسيحية بأعداد كبيرة من المسحاء الكذبة بحيث دفعت يوحنا إلى الاعتراف بذلك كما يقول: (كما سمعتهم أن ضد المسيح يأتي، قد صار الآن أضداد للمسيح كثيرون، مِنّا خرجوا). (7) فهذه شهادة من اهم عنصر في المسيحية يوحنا الذي يقول وبكل وضوح بأن المسحاء الدجالون هم من صميم المسيحية. ولو رجعنا إلى مفسري المسيحية لرأينا اجماعهم على أن المسيحية هي المنّبت لكل الهراطقة والدجالين كما نقرأ في الموسوعة الكنيسة لتفسير العهد الجديد في شرح أضداد المسيح: (هم من يُعلمون تعاليم مضادة لوصايا المسيح ليضلوا الناس. يُكلم القديس يوحنا أولاده المؤمنين ليُحذرهم من الهراطقة الذين يظهرون في نهاية الأيام كعلامة من علامات اقتراب المجيء الثاني التي ذكرها المسيح في كلامه عند نهاية العالم. هؤلاء كانوا أعضاء في الكنيسة ولهم اسم أنهم مسيحيون ولكن لم يكن لهم الإيمان لأجل انحراف فكرهم وقلبهم الشرير، ولأن داخلهم ليس مستقيما). (8)
نكتفي بهذا القدر من أقوال كبار رجالات المسيحية فلا يسعنا استعراض أقول جميع علماء المسيحية من أن (يسوع الدجال) هو من صميم عقائد المسيحية وأنهُ خارج في نهاية الأمر لا محالة.
أما لماذا أخفى الله تعالى شخص الدجال وأمر انبيائه بعدم الافصاح عن اسمه وزمان خروجه ذلك لأن الحكمة الإلهية رأت ان يخفي تعالى امور كثيرة عن الإنسان لأسباب لربما تعود عليه بالمنفعة لو هو لا يعلمها. فالموت، والغيب، وما تقر الأرحام، ومسألة الرزق، ورؤيته تعالى. وغيرها اخفى الله تعالى العلم بها. فلو علم الإنسان متى يموت لما كان للحياة اي طعم. ومن الأمور التي اخفاها وجعلها من الغيب هو أنه خصص يوما فيه يستتب العدل والسلام على الأرض على يد رجل عينهُ مسبقا. (لأنهُ أقام يوما هو فيه مزمع أن يحكم المسكونة بالعدل برجل قد عينه مقدما). (9) فعند ابتداء العالم خلق الله تعالى ذلك الرجل وعيّنهُ مسبقا للحكم بالعدل في الأرض ثم اخفى شخصه ويوم مجيئه.
فعلى طول تاريخ الأديان امر الله أنبيائه بعدم الافصاح عن يوم ظهوره، فمنذ أن أعلن آدم عليه السلام أن الولاية بعده لابنه هابيل واحتفل بذلك وقاموا بتقديم القرابين لله تعالى. فتقبل الله من هابيل ولم يُتقبل من قابيل، فتسبب ذلك بقيام قابيل بقتل أخيه حسدا منهُ على الولاية التي منحهُ الله إياها. فقد تحركت نوازع الشر في روح قابيل، ومنهُ بدأت حركة التصدي للأنبياء ومحاولة قتل خلفائهم او اقصائهم، وسفك دم هابيل جعل خط قابيل لا يتورع عن قتل الأنبياء والمصلحين وغيرهم. فلم يسلم نبي من أذاهم، وبسبب ذلك ومنذ ذلك التاريخ تم التكتم الشديد على هوية صاحب الولاية الكبرى والقيادة العظمى الذي اذخره الله تعالى لقطع دابر الظلمة، واقامة الأمت والعوج، وازالة الجور والعدوان وتجديد الفرائض والسنن. وقد أمر الله تعالى نبيه دانيال بأن يتكتم على اسمه ولا يعلن وقته، لأن دانيال رأى أن الجور قد طغى في الأرض على يد كورش فقال له الله تعالى: (وأما أنت يا دانيال فأخف الكلام، واختم السفر. لأن الكلمات مخفية ومختومة إلى وقت النهاية). (10) فدانيال يعرف ماذا سوف يجري في النهاية، ولكنه يلتزم بإخفائها بناء على أمر ربه.
وحتى زمن السيد المسيح عليه السلام فقد كان اخفاء ذلك اليوم أمر إلهي صارم كما يقول السيد المسيح: (وأما ذلك اليوم، وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، لا الملائكة الذين في السماء ولا المسيح، إلا الله). (11) وهذا ما ذكره القرآن في قول الله تعالى لنبيه: (يسألونك عن الساعة أيان مُرساها، قل إنما علمها عند ربي، لا يُجليها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة، يسألونك كأنك حفي بها، قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون). (12) فقضية خفاء العنوان، وخفاء وقت الظهور وخفاء تلك الساعة لا بل خفاء الشخص هو أمرٌ إلهي وجب على اتباع جميع الديانات الالتزام به والتكتم عليه أيضا، وواجبهم في أيام الغيبة تحري فقط العلامات والدعاء للتعجيل بذلك اليوم. وقد ورد في الأحاديث أن من أفضل القربات عند الله هو انتظار الفرج. وانتظار الفرج لا يعني النوم والتكاسل وعدم السعي والتمهيد لذلك اليوم، لأن ما يجري قبل الظهور هو بمثابة مرحلة الاعداد والاستعداد، لا بل انها اهم مرحلة من مراحل الاختبار وكشف النوايا (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة).
المصادر:
1- إنجيل متى 2 : 1 ــ 3.
2- أخرجهُ أبو داود في صحيحه حديث رقم 4322 . وابن ماجة رقم الحديث 4077. وقام بتخريجه الألباني في صحيح الجامع الصفحة 7875.
3- رواه الطبراني و أحمد ، ومسلم والحاكم وغيرهم.
4- إنجيل لوقا 10 : 13.
5- تسالونيكي 2 : 2.
6- إنجيل متى 24 : 24.
7- رسالة يوحنا الرسول الأولى 2 : 18.
8- شرح الكتاب المقدس ، الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد تفسير رسالة يوحنا الأولى.
9- سفر الأعمال 17 : 31.
10- سفر دانيال 12 : 4 ــ 9.
11- إنجيل مرقس 13 : 32.
12- سورة الأعراف آية : 187.