المتتبع لكثير من خطب الإمام الحسين عليه السلام في نهضته المدوية ضد شياطين الآرض من آل أمية، ومواقفه ومقولاته وأحاديثه، يجدها تنم عن بصيرة بحال ما نهض من أجله، وبيقين بما جُبلت به نفوسُ أنصاره من التفاني والفناء من أجله وعياله وأهل بيته، لكنه (سلام الله عليه) لم يرد لشيعته أن يكونوا له ضلوعا ودروعًا لحمايته بقدر ما كان يطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ذلك الإصلاح على المستوى المادي الدنيوي في المساواة وإرساء قوانين العدل والأمان وحفظ كرامة الإنسان، وعلى مستوى الإصلاح النفسي والذاتي من الثبات على القيم، وعدم الخنوع للطغاة، وعدم بيع الدين بثمن بخس، وأن لا يدخلوا في حظيرة من وصفهم: «الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديانون». الإمام الحسين (عليه السلام) يحب شيعته ويرأف بهم، ولا يقبل أو يرضى لهم الأذى، حتى أنه خاطبهم ليلة عاشوراء: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا..!!»، فلا يوجد قائد على مر التاريخ يطلب من أصحابه أن يتفرقوا عنه، إلا إذا كان أبي النفس، عالي الهمة، سليل مجد الشجاعة والفضائل والسمو والكرم كالحسين (عليه السلام)؛ فهو متوكل على ربه، مؤمن بنصره وفتحه المبين: «أما بعد، فإنه من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح»، ولأنه لا يريد بقاء جسديًّا خاليًا من روح الإصرار والثبات، بل بقاء مدججًا بالعقيدة والمبدأ والروح القتالية التي تُفنى وتُذر في سبيل دين الله وعزته، وإظهاره على الدين كله ولو كره المشركون.
الإمام (عليه السلام) أراد قلوبًا نقية وفية لنهضته، ثابتة على مبادئه، لا تتخلى عنها خوفا من عدو أو طمعا في دنيا ومناصب، قلوبا لا تعرف الغدر والنكول ساعة الشدة والابتلاء، وهذا الأمر من الصلابة الحسينية وما ربى عليه شيعته وأنصاره ومحبيه، هو ما أنتج لنا سيولًا من المعارضة للطغاة على مر التاريخ، وحتى قيام الساعة، فنهج الإباء هو نهج سماوي لا محيص عنه، هو رفض لتشريع الاستبداد، وتقرير بأنّ الإنسان له حرية العبادة له سبحانه، وأن يعيش حرًّا كريمًا على أرضه وتحت سمائه، بلا قيود فرعونية أو أموية أو عباسية أو بعثية أو داعشية همجية، وحتى حق الطقوس والممارسات العبادية والاعتقادات بشتى أنواعها هو مكفول لجميع البشر، ولا يحق للإنسان أن ينتقص من الآخرين ويسخر منهم؛ فالأولى بالبشر الاهتمام بشؤونهم وتشذيب أفعالهم، وتعزيز وعيهم وثقافتهم، ولا شأن لهم بغيرهم إلا بحدود ما تستوجبه النصيحة بالمنطق والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، لا أن يكونوا أربابًا على غيرهم، يدخلون الجنة من يشاؤون ويخرجون منها من يشاؤون..! هذا ما يجب على الجميع أن يعوه، ولا يتصرفوا تصرفا يؤدي بهم إلى الفرقة والتناحر، فإن كنت ذا رأي وملة واعتقاد يخالف أخيك، فعليك أن تكفّ لسانك عن تشويه معتقده وعاداته وطقوسه ومراسيمه؛ فالحقيقة قد تكون غائبة عندك، أو أنك تنظر من زاوية لا ينظر لها أخوك؛ فالعالم مكتظ بالتيارات والمذاهب والآراء، نعم نكتب عن أفكارنا لا على سبيل الانتقاص واللعن والاستهجان، بل على سبيل التبيان، فإن ظهر أن هناك من يسوؤهم من حالنا، نظرنا إلى المصلحة العامة للبلد والمجتمع أولا، وللتكوين البشري على وجه عام ثانيا: هل ما نطرحه يخدمنا كمسلمين وكبشر؟ فالأئمة عليهم السلام ما كانوا يسفهون ويسخرون ويفضحون، بل كانوا يتعاملون مع الناس على قدر عقولهم، يبسطون المسألة، ويرفقون في الحديث، ويلينون الجانب؛ كي يظفر الآخر بالأمان الذي استلبه منهم الطغاة، فباتوا لا يفرقون بين إمام وأمير، فمن طلبك لهداك وبصيرتك، غير من جرّك لنار سعّرها جبار لغضبه. فما يعنينا كأمة مسلمة أن الحسين عليه السلام رأى ظلما ومفسدة وواقعا مريرا أصاب الأمة، فخرج لطلب الإصلاح في أمة جده (صلى الله عليه وآله)، وهذا ما علينا أن نتبناه، ونقتدي بهذه النهضة التي صارت نبراسًا لكل الأحرار في العالم، أما غير ذلك من توهين وإملاءات وتمحّلات فالإمام عليه السلام أدرى بتكليفه الشرعي؛ فتحليل الأحداث لا يُؤخذ من وجهة نظر واحدة، سواء كانت لغوية أو فقهية أو مقامية بل بمجموع ما يتسير من فهم للسياق العام للأحداث.
وما نعيشه اليوم من ظلم واستبداد وهيمنة الاستكبار العالمي على مقدرات الشعوب، وعدوانهم المستمر على شعوب المنطقة هو شبيه وامتداد بما حصل من ظروف وأجواء في عصر هيمنة بني أمية، فإما التطبيع والرضوخ والبيعة، والتسليم بكل ما فعلوه من جرائم، وإما أن توصف بأبشع الصفات من الخروج عن الإسلام وولي الأمر، ومفتت وحدة المسلمين، أو يتهمونك أنك باحث عن سلطة أو جاه، أو أنك من أمة اللطم والتباكي على الأطلال، وهذا كله لا يعدل ذرة مما قاساه نبينا وأهل بيته (عليهم السلام) وشيعتهم على مر العصور من ظلم وتشويه، لكن هوّن ما نزل بهم أنه بعين الله تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» سورة البقرة: 155-157.