ما بين الظاهر والباطن، وما بين الصخب الخادع والسكينة الصادقة، يضيع الكثير من الناس في فهم معنى الرجولة.
في زمن باتت فيه المقاييس تُصاغ على شكل رصيدٍ بنكيّ أو مظهر خارجي، لا بدّ من العودة إلى منهل الطهارة والوعي، إلى مدرسةٍ ما نطقت إلا بالحق، وما دلّت إلا على الخير، إلى من كانت كلماته مناراتٍ تهدي العقول التائهة: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). إنه الرجل الذي إن أطللتَ على شخصه، أسرك بعقله، وإن أنصتَّ إلى حديثه، أسَر قلبك، فجمع بين العظمة والرحمة، بين الحزم والحكمة، بين السيف والقلم.
ورد في كتاب "الخصال" للشيخ الصدوق، عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: "كمال الرجل بستّ خصال: بأصغريه وأكبريه وهيئتيه. فأما أصغراه: فقلبه ولسانه، إن قاتل، قاتل بجَنان، وإن تكلّم، تكلّم ببيان، وأما أكبره: فعقله وهمّته، وأما هيئته: فماله وجماله".
هذا الحديث ليس توصيفًا أخلاقيًا عابرًا، بل خريطة إنسانية دقيقة ترسم ملامح الرجولة الحقة كما يريدها الإسلام، وكما تمثّلت في سيرة الإمام نفسه.
حين قال "إن قاتل، قاتل بجَنان"، فهو لا يتحدث عن قتال السيف وحده، بل عن المواقف كلّها؛ فالرجولة أن يُقدم الإنسان على ما يؤمن به بقلبه لا بلسانه فقط، أن لا تكون مواقفه سطحية أو مترددة أو نفعية، بل نابعة من إيمانٍ عميق، من ضمير حي، من جنانٍ امتلأ باليقين. ليس الرجل من يتحرّك حين تُصفق له الجماهير، بل حين يختار الحق وإن كان وحده.
ثم يمضي الإمام ليقول: "وإن تكلّم، تكلّم ببيان"، ليجعل من اللسان عنوانًا آخر للرجولة.
فالكلمة ليست أداة تزيّن الحديث فحسب، بل هي انعكاسٌ للقلب والعقل، وبها يُعرف دين الإنسان وخلقه وثقافته، إن الرجل الحقّ لا يطلق لسانه كيفما شاء، بل يعرف متى ينطق، وأين ينطق، ولمن يتوجّه بكلامه. يزن كلماته قبل أن يطلقها، فيحرص أن تكون في طاعة الله، خالية من لغو أو إيذاء، مشحونة بالوعي والنفع. والكلمة البليغة لا تحتاج إلى ارتفاع صوت، بل إلى صدق مضمون، والكلام في غير موضعه مذلة، كما أن لكل مقام مقال، ولكل مجلس لسانه. فالحديث في البيت ليس كالحديث في الديوان، والكلمة أمام الأسرة ليست كالكلمة أمام الجمع. وهذه الفروق الدقيقة لا يُدركها إلا من اكتمل في رجولته.
ومن صميم القلب واللسان، ينتقل الحديث إلى العقل والهمّة، ليكتمل بذلك البناء الداخلي للرجولة.
العقل هو النور الذي يُبصر به الرجل طريقه وسط ظلمات الحياة، وهو الحَكم بين رغباته ومبادئه، بين عجَلة المواقف ورويّة الحكماء. لا رجولة في التسرّع، ولا بطولة في الجهل، ومن لا يعقل لا يعدو أن يكون جسدًا يتحرك بلا روح.
أما الهمة، فهي شعلة الطموح، وهي محرك النهوض، فمن لا يسعى إلى الأفضل، ولا يعمل على تطوير نفسه، يظل سجينًا في كهف الاعتياد والكسل.
الرجولة أن تسعى لنفسك ولأهلك ولمجتمعك، أن تُضيف للحياة لا أن تكون عالة عليها، أن تمدّ يد العون لا أن تنزوي في ركن الأنانية والعزلة، أن تجعل من طاقتك جسرًا لا حاجزًا، ومن قدراتك نورًا لا ظلاً.
ولم يُغفل الإمام في حديثه المظاهر الخارجية، فجاء على ذكر المال والجمال، بوصفهما "هيئتَي الرجل". لكنه لم يُقدّمهما كمعيارٍ جوهري، بل كعنصرين مكمّلين، لا يكتمل بهما الرجُل إلا إذا أحسن استخدامهما. فالمال أداة، إن صُرفت في الخير كانت بركة، وإن استُخدمت للتفاخر والاستعلاء أفسدت صاحبها، ليس الرجل غنيًّا بما في جيبه، بل بما يُخرج منه لينفع به غيره.
كما ان جمال، في مفهوم الإمام، ليس الجاذبية الظاهرية فحسب، بل ما يُزيّن هذا الجمال من خُلقٍ وأدبٍ وعقل، فإن خلا من هذه، لم يكن إلا زينة زائلة لا تلبث أن تخبو أي بمعنى اخر" زائلة أي فانية".
بهذه الستّ، رسم الإمام علي (عليه السلام) ملامح الرجولة الكاملة، لا كما يصورها الإعلام الزائف أو مفاهيم السوق والسطحية، بل كما أرادها الله عزّ وجلّ: رجولة تُبنى من الداخل إلى الخارج، من القلب إلى الهيئة، من الموقف إلى المبدأ، من الكلمة الصادقة إلى الفعل النبيل.
ليتنا نُدرّس هذا الحديث في بيوتنا، نعلّمه لأبنائنا، ونعلّقه في مدارسنا ومساجدنا ومجالسنا. ليت هذا الحديث لا يُقرأ فقط، بل يُحفَظ ويُعمَل به، لعلّنا بذلك نُعيد للرجولة معناها النقي، ونُخرِج أجيالًا من الرجال، لا ذكورًا تبحث عن التباهي، بل رجالًا يُبنى بهم المجتمع، ويُحمى بهم الدين، وتُصان بهم القيم.