كنّا ننتظر بعد إنجازات المقاومة بجنوب لبنان وتوفيقاتها العسكرية، أن تتواصل المعارك، على أساس صدّ العدوان عن الجنوب، لكن حصل ما لم يكن جمهور المقاومة ينتظره، فكان إبرام إتّفاق وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني وحكومة تصريف الأعمال اللبنانية - ما زلت متوقفا عند هذا الحد لأنني استبعد أن يلجأ الحزب إلى هذا الحل دون أن يكون مكرها عليه – وقد أُبْرِم هذا الإتفاق ليفسح المجال لعودة النازحين اللبنانيين من الجنوب إلى بيوتهم، وهذا بحدّ ذاته مظهر عزّ فرضته المقاومة كمعادلة، برهنت على قوّة واقتدار، في مقابل إحجام المستوطنين وعزوفهم عن العودة إلى مستوطناتهم بشمال فلسطين المحتلة.
طيّ صفحة شهرين من المعارك البرية الدائرة، باتفاق معلن – مع معرفة العدوّ وخدعه ومصالحه – لا يعني بالتأكيد أن الحرب انتهت، فهناك جولة أو جولا أخرى قادمة، قد تبدأ فصولها بعد استلام الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) فترته الرئاسية، وهذا الشخص صهيوني أكثر من الصهاينة، وأحمق بما فيه الكفاية، لكي يدخل أمريكا في أيّ مستنقع يراه بعينه الصهيونية، وهو الذي يرى في خارطتها صُغرا، وعبّر عن رغبته في أن تتوسّع، وهذا تنفيذا لحلم كل صهيوني في إسرائيل الكبرى. يبدو أنّ أطرافا أخرى أصبحت مستعجلة لما قد يتّخذه ترامب من قرارات، وفي مقدمتها تركيا التي مازالت تحلم هي الأخرى بالتوسع في جنوبها، باقتطاع أجزاء أخرى من سوريا، كما اقتطعت من قبل لواء الإسكندرون (1939)
عندما كانت فلول الإرهاب التكفيري تجتمع تباعا وعلى مدى سنوات المؤامرة على سوريا، لم يكن هناك تصوّر بأنّ هؤلاء سيكون لهم شأن يذكر فيما بعد، ويبدو أن أعدادهم الكبيرة التي اتخذت من مدينة (إداب) وريفها قاعدة لهم، قد اجتمعوا على مواصلة القتال ضدّ النظام السوري وروافده المقاومة، بل إنّهم اتخذوا موقف عداء للقضية الفلسطينية، وموقف موالاة لكل من عادى محور المقاومة، وقد رأينا كيف داس خوارج العصر العلم الفلسطيني، بكل وقاحة ودون أدنى خجل، غير عابئين بتصوير الفيديو الذي انتشر على صفحات التواصل الإجتماعي.
توقّفت المعارك على خطوط التماس مع فلسطين المحتلة، بين قوات المقاومة ( حزب الله) وإسرائيل، لتُفْتَتتح جبهة جديدة في الشمال السوري، حيث هاجمت فلول الإرهاب التكفيري أطراف (حلب)، بدأ من بلدتي (نبّل والزهراء)، ويتّسع نطاق هجومها بسرعة، وهي الجبهة الإرهابية التي رعتها تركيا، ومن ورائها أمريكا وإسرائيل ودول الغرب، هجمة هي في نظري المرحلة الثانية من الخطّة الصهيو غربية التكفيرية، وقع الاعداد لها بما يستوجب استمرارها، والتي سيكون لها تداعيات كبيرة على الشمال السوري، خصوصا وأنّ التوقيت الذي أقّته المشغلون لهذه المجاميع التكفيرية، يحمل بين طيّاته مؤامرة أخرى خطيرة جدّا، يجب على قوى المقاومة أخذها بجدّية، والتعامل معها بكل حزم قبل انتهاء موعد وقف اطلاق النار بجنوب لبنان.
الهجوم الإرهابي الأول أربك المنطقة، خصوصا المناطق المتاخمة لإدلب، مما سبب نزوح أهالي نبّل والزّهراء (قريتان شيعيتان)، تأمينا لهم من هجمات مسلحين، ظهروا متجهزين أكبر مما كانوا عليه من قبل، حيث أصبحوا يملكون الدبابات والصواريخ والمسيّرات، تدعمهم بها تركيا وأوكرانيا، الهدف كما هو واضح قطع طريق حلب ( المطار) إيران في اسناد قوى المقاومة، ويبدو أن الرئيس التركي مازال مُبراهِنا على خداعه، ولم يتراجع في سياسته تجاه سوريا قيد أُنْمُلة، فهو مستمِرّ عليها بكل إصرار.
الأهداف الغير معلنة من الجانب الأمريكي، السيطرة على منابع النفط والغاز من البحر إلى أعماق البادية السورية، تمكين إسرائيل من وضع اليد عليها، والتحكم فيها أرضا وموارد، وهذا ما يسعى إليه الرئيس الأمريكي الجديد، أما هدف إسرائيل الأساس الذي اشتغل عليه جيشها، ولم يفلح في تحقيق شيء منه، وهو تامين حدودها المسيطرة عليها حاليا إلى ما بعد نهر الليطاني، ستتاح لها فرصة التحالف بينها وبين فلول الإرهاب التكفيري، من أجل تحقيق انجاز أكبر، وهو القضاء على محور المقاومة بدءا من الأراضي السورية، وأبعاده إلى ما وراء العراق، بما يعني أن إيران الهدف المؤجل في قائمة الإستهداف، وهي المُعصَّبة بتبعات افشال مخطط إسرائيل الكبرى، وهؤلاء وكلاء الغرب وصنائعه في المنطقة، على استعداد للذهاب إلى الجحيم، من أجل تحقيق هدف المشروع الغربي في السيطرة على المنطقة بأسرها.
نعلم يقينا أنّ إيران استُهْدِفت من طرف أمريكا بعد قيام نظامها الإسلامي المعادي للإستكبار والصهيونية، لذلك فإنها تبقى على رأس قائمة الدول المعادية والتي يجب ايذاؤها والتخلّص منها بأيّ أسلوب، وقد اهتدت أمريكا بحلفائها ودوائرها إلى اذكاء الفتنة المذهبية بين المسلمين السنّة والشيعة، وقد نجحت في ايهام قسم منهم بأنّهم أعداء بعض ولا يمكن أن يتعايشوا أبدا، وإنّ إيران زعيمة الشيعة، تسعى إلى بسط نفوذها في أرجاء العالم الإسلامي، وهي دعاية أمريكية بألسنة وهابية، صدّقها من صدّقها من أتباعهم، فتنافروا حولها متسابقين يعتقدون أنّها حق، وبنوا عليها موقفا معاديا لإيران دون أدنى تروٍّ.
لقد نجحت أمريكا في بناء تلك الجماعات المتطرفة، وجعلت مقودتها بأيد أشدّ تطرفا، عمياء بكماء صمّاء، لا ترى لإيران ومحورها المقاوم حقّا في مقاومة إسرائيل، فضلا في الوجود من أساسه، ففي إحدى تجمعات التكفيريين على تخوم حلب، سُمِع منهم نداء (جايينك كربلاء) في تعبير لما تختزله أنفسهم المريضة، وعنونة لم تفارق قادة هؤلاء الأنجاس من حصر صراعهم في إطار مذهبي، بينما هم ألعوبة في أيدي صانعيهم ومشغّلهم الغربيين والصهاينة.
إيران لم تأتي إلى سوريا من تلقاء نفسها، بل من خلال التزاماتها المبدئية، ومنها واجب الدفاع عن القضية الفلسطينية، والتصدّي للمشروع الغربي الإستعماري الجديد في المنطقة، بما يتضمنه من اخضاع لسوريا، وجرّها الى اتفاق سلام يخرجها من دائرة المواجهة، وقد صرّح بذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي (إيهود أولمرت)، بأن ما حصل في سوريا من قتال، كان ردّ فعل على رفضها الإنصياع لإرادة الغرب، في إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل، منتهى الصراحة جاءت على لسان أحد أكبر قادة إسرائيل، لتفضح الدور الخبيث لأداة التكفير، التي صنعها وجهزها وأطلقها الغرب على سوريا والعراق (1)
صراع يبدو كبيرا - لا يجب الإستهانة به - بحجم أهدافه المعلنة وغير المعلنة، من الأطراف المنخرطة فيه على الأرض السورية، فعقدة الغرب وإسرائيل الباقية إلى اليوم هي سورية، دون أن ننسى الأطماع التركية في الشمال السوري، وأعتقد أن ايران شاعرة بخطورة ما يحصل منذ أمس الأول، فهي مستهدفة أوّلا من خلال مشروعها في تحرير فلسطين، وإبعادها عن المنطقة، من شأنه أن يؤخرها عن هدفها الذي أعلنه الإمام الخميني، وتعهّده وليّه الامام الخامنئي من بعده، الأحداث تتتابع ولن يمرّ يوم دون أن يجدّ جديد، الساحة مفتوحة ورجالها على الميدان، ولا ينبئك مثل خبير.