إنَّ الإمام الحسين "عليه السلام" لمَّا وصل أرض الكرب والبلاء صار يتأمَّل كثيرًا في ذلك العدو البئيس الذي تجمَّع حوله من كُلِّ بقعة؛ ليقاتله وهم مَنْ هو الحسين، فتوجَّه نحو تلك الثلة العظيمة من أنصاره الذين بقوا معه، وأعدَّهم لهذه النهضة المقدسة فقال لهم: ((أَلَا تَرَوْنَ إلى الحَقِّ لا يُعْمَلُ بِهِ، وإلى البَاطِلِ لا يُتَنَاهَى عنهُ، ليرغَبِ المؤمِنُ في لقاءِ اللهِ، فإنِّي لا أرى الموتَ إلا سعادَةً، والحياةَ مع الظالمينَ إلَّا بَرَمًا)).
لقد وقف أبِيُّ الضيمِ سيد الشهداء "عليه السلام" يخاطب أنصاره بأسًى شديدٍ لِمَا أصاب الأمة من ارتداد في عقيدتها وتلوُّث فطرتها، وهوانٍ في نصرة دينها، واستهتارٍ في قتل أبناء نبيِّها، فكان كلامه يؤكد على موضوعات متعددة منها:
١-أهمية معرفة الحق، وأهله، ومصاديقه، ومقامه، وضرورة التمسُّك به، وما يجب أنْ يُبْذَل المؤمن من أجل نصرته وتثبيته.
٢-بيان ما أصاب أهله من مشقة وأذًى في سبيله، وإلى الباطل والتحذير منه وما أصاب أهله من ذُلٍّ وهوانٍ، ولا بد من إتمام المسيرة للحفاظ على هذه المبادئ المقدسة.
٣-إنَّ هذا هو حال المصلحين -دائمًا- في مقارعة الطغاة والمفسدين، فصار يحبِّب إليهم كرامة الشهادة، والرغبة في لقاء الله تعالى، وعدم الاستجابة لأولئك المبطلين المرتدين عن دينهم، فما أعظمه من تعبير وأجلَّه حيث يدعوهم إلى الشهادة طوعًا (فليرغب المؤمن)!! فعلى تلامذة مدرسة عاشوراء أنْ يرغبوا في الموت ويكونوا أهلًا له؛ لأنه أهم دروسها على مرِّ التاريخ!!
٤-تأكيده "صلوات الله عليه" على بيان عقيدته في هذين الجانبين علانية وبثبات راسخ (الحياة مع الذل) و (الموت مع العز)، فهذه هي النفس الأبيَّة التي لا تخاف أحدًا إلا الله، ولا ترى الحق إلا في دين الله، فهي ترى أنَّ الشهادة حقيقتها (السعادة) حيث رضوان الله تعالى، وما أعدَّه لهم، فضلًا عن اللحوق بسادة أهل الأرض الذين مضوا من قبل .. بل ترى أنَّ حقيقة البيعة أو الرضا بحكم الظلمة والطغاة هو الذل والهوان، بل السؤم والضجر لهذه الحياة (إلا برمًا)؛ إذ يكون أولئك الأدعياء وأبناؤهم حُكَّامًا على الأخيار!!
٥-وقف ليعلن للأمة معنى الإيمان وحقيقته حيث الصراع السرمدي بين الحق والباطل، ولا بد أنْ يكون المؤمنون من أنصار الحق مهما كان ثمن تلك النصرة، فالموت ليس عائقًا أو رادعًا لهم من نصرته والخلود به، كما خلد الذين سبقوه، وأنَّ للحق أهلًا وإنْ كانوا قلَّة ولكن سيسجل التاريخ لهم الخلود والبطولة والإباء، وأنَّ أهل الباطل كثرة، وسيكتب التاريخ لهم الذل والهوان، وقد صدق التاريخ فيما كتب عن ملحمة عاشوراء.
لقد نشر رسالته عبر تلك الوقفة العظيمة في كربلاء ليبيِّن فلسفة (الحياة والموت) بالنسبة للأحرار والمصلحين، ويؤسس لمدرسة عظيمة تلامذتها الأحرار لا العبيد .. فيكتب بذلك صفحة أخرى من صفحات ملحمة النهضة الحسينية لمن أراد أنْ يتشرَّف بها ولو بعد مرور السنين الطوال!!