بسم الله الرحمن الرحيم
اعتادُ المؤمنون على بذل الطَّعام في عزاء الإمام الحسين عليه السلام، وعلى تناول الطعام المبذول، رجاء نزول البركة بسببه، حيثُ بُذِلَ حُبَّاً بالحسين عليه السلام، وفي مجالسه وأيامه.
بل إنَّ منهم من يطلب الشفاء فيه، فهو محلُّ نزول البركات والرحمات الإلهية، ومَن شفاه الله تعالى لم يتعجَّب من ذلك، بل عَدَّ ذلك من بركات الحسين عليه السلام، ومن كرامته عند الله تعالى.
إنَّ البركة تارةً يُراد منها الزيادة والنماء في الشيء، وتارةً تثبيت الشيء واستدامته، أمّا التبرُّك فيكون بمعنى طلب البركة واليُمن والنفع والزيادة.
لكنَّ بعض المؤمنين اليوم ظَنُّوا أنَّه لا ينبغي التبرُّك بما يُبذل في مجالس الحسين عليه السلام، وتوهَّموا أن هذا ينافي ما ورد في زيارة عاشوراء: (اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ تَبَرَّكَتْ بِهِ بَنُو أُمَيَّةَ وَابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَاد).
وينافي ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الرضا عليه السلام: وَمَنْ سَمَّى يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ بَرَكَةٍ، وَادَّخَرَ فِيهِ لِمَنْزِلِهِ شَيْئاً، لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيمَا ادَّخَرَ، وَحُشِرَ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَ يَزِيدَ (الأمالي للصدوق ص129).
لكنَّ المتأمِّلَ في تُراث آل محمدٍ عليهم السلام، والعارفَ بلَحنِ قولهم، يعلم أنَّ تَبَرُّك المؤمنين بما يُبذَلُ على سَيِّدِ الشُّهداء في محلِّه تماماً.
وأنَّ تَبَرُّكَهُم بالطعام المبذول على حبِّ الحسين يُدخلُ الغيظ على أعداء آل محمد.. الذين جَعَلوا يوم عاشوراء يوم بركة!
فكيف ذلك؟
لقد عَدَّ بنو أميَّة هذا اليوم يوم بَرَكةٍ (لِقَتل سيد الشُّهداء فيه)! وجعلوه يومَ عيدٍ، ووضعوا الأحاديث المكذوبة في بيان فضله! والسببُ في ذلك: الفَرَحُ بقتل سيد الشهداء! والشماتة بآل محمد عليهم السلام! فتبرَّكوا فيه فَرَحاً!
فيما عَدَّه المؤمنون يوم حُزنٍ وألمٍ وتَفَجُّعٍ وبكاء..
ولمّا كان المقتول فيه هو أعظم خلق الله تعالى، ومحل البركات الإلهية، اعتقد المؤمنون بحلول البركة منه عليه السلام إلى الأرض التي حلَّ فيها.. وانتقالها إلى زائريه، وحلولها في كلِّ ما يبذل لأجله وعلى اسمه وفي سبيل إحياء أمره.
والطعام مصداقٌ من مصاديق ما تناله البركة عندما يبذل في محبة سيد الشهداء عليه السلام.
ففي الحديث القدسيّ عن الله تعالى:
وَمَا مِنْ عَبْدٍ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ فِي مَحَبَّةِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِ طَعَاماً وَغَيْرِ ذَلِكَ دِرْهَماً أَوْ دِينَاراً، إِلَّا وَبَارَكْتُ لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا الدِّرْهَمَ بِسَبْعِينَ! وَكَانَ مُعَافاً فِي الْجَنَّةِ، وَغَفَرْتُ لَهُ ذُنُوبَهُ (مجمع البحرين ج3 ص406).
هو نَصٌّ صريحٌ من الله تعالى، في إسباغ البركة على من بَذَلَ المال وأطعم الطعام في محبة الحسين عليه السلام.
يشترك معهم في ذلك كلُّ من أحيا أمر الحسين عليه السلام.
لقد صار ما ينسب للحسين عليه السلام مباركاً، كما صار البيتُ مباركاً في كتاب الله، وكما ذكر الله في القرآن أرضاً مباركةً، وشجرةً وليلةً مباركة.. وهكذا..
هي بركةٌ بكلِّ معانيها..
فالباذلُ يزيده الله من عطائه عندما يبذل على محبة سيد الشهداء..
والآكل يبارك الله له في ما طعم..
فإذا كان الله تعالى قد جعل البركة في الطعام البارد.. كما ورد عن الأطهار..
وجعلها في أول الطعام وآخره إذا غُسِلَت اليد قبله وبعده.
وجعل البركة في الطعام عند تناوله مع نداوة اليد دون مسحها.. وعند الأكل من أطرافه لا من وسطه..
وإذا كان الله تعالى قد جعل البركة في بيت من يطعم الطعام..
فلا عَجَبَ أن يجعل الله أعظم البركة في الطعام الذي يُبذَلُ في محبة الحسين عليه السلام..
ولن تجد من المؤمنين من يطلب البركة واليُمن والنَّفع بطعامٍ كما يطلبه من طعامٍ بذل على محبة الحسين عليه السلام..
إنَّ الحسين كالنبيِّ صلى الله عليه وآله، يُبارك الله له في كلِّ ما يضع يده عليه، أو يُنسب إليه!
ففي الحديث القدسيِّ أنَّ الله تعالى أخبر نبيَّه موسى عن خاتم الأنبياء محمدٍ صلى الله عليه وآله وأنَّه: يُبَارَكُ لَهُ فِيمَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ! وَيُبَارَكُ عَلَيْه! (الكافي ج8 ص43).
فما كان النبيُّ صلى الله عليه وآله يضع يده على شيء إلا حلَّت فيه البركة.. طعاماً كان أو شراباً أو غير ذلك.. وكانت البركة تحلُّ في كلّ شيءٍ بحسبه..
والحسين من النبيِّ صلى الله عليه وآله.. وحاله كحاله..
لذلك بوركت حتى الأرض التي حلَّ فيها بدنه الطاهر.. كما دلَّت عليه الأحاديث الشريفة المتكثِّرة، ففي الحديث الشريف عن الباقر عليه السلام:
خَلَقَ الله أَرْضَ كَرْبَلَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ أَرْضَ الكَعْبَةِ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ الفَ عَامٍ، وَقَدَّسَهَا وَبَارَكَ عَلَيْهَا، فَمَا زَالتْ قَبْلَ أَنْ خَلَقَ الله الخَلْقَ مُقَدَّسَةً مُبَارَكَةً، لَا تَزَال كَذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلَهَا الله أَفْضَلَ أَرْضٍ فِي الجَنَّةِ، وَأَفْضَلَ مَنْزِلٍ وَمَسْكَنٍ يُسْكِنُ الله فِيهِ أَوْلِيَاءَهُ فِي الجَنَّةِ (الأصول الستة عشر ص141).
وعن الإمام السجاد عليه السلام:
اتَّخَذَ الله أَرْضَ كَرْبَلَاءَ حَرَماً أَمْناً مُبَارَكاً.. وَأَنَّهَا لَتَزْهَرُ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ كَمَا يَزْهَرُ الكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ بَيْنَ الكَوَاكِبِ لِأَهْلِ الأَرْضِ، يَغْشَى نُورُهَا نُورَ أَبْصَارِ أَهْلِ الجَنَّةِ جَمِيعاً وَهِيَ تُنَادِي: أَنَا أَرْضُ الله المُقَدَّسَةُ، وَالطِّينَةُ المُبَارَكَةُ التِي تَضَمَّنَتْ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ وَشَبَابَ أَهْلِ الجَنَّةِ (الأصول الستة عشر ص141).
وعن الإمام الصادق عليه السلام:
إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى فَضَّلَ الأَرَضِينَ وَالمِيَاهَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ.. وَإِنَّ أَرْضَ كَرْبَلَاءَ وَمَاءَ الفُرَاتِ أَوَّلُ أَرْضٍ وَأَوَّلُ مَاءٍ قَدَّسَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى فَبَارَكَ الله عَلَيْهِمَا!
فَقَال لَهَا: تَكَلَّمِي بِمَا فَضَّلَكِ الله تَعَالى..
قَالتْ: أَنَا أَرْضُ الله المُقَدَّسَةُ المُبَارَكَةُ، الشِّفَاءُ فِي تُرْبَتِي وَمَائِي وَلَا فَخْرَ.. فَأَكْرَمَهَا وَزَادَ فِي تَوَاضُعِهَا [وَزَادَهَا لِتَوَاضُعِهَا] وَشَكَرَهَا الله بِالحُسَيْنِ (ع) وَأَصْحَابِهِ (كامل الزيارات ص271).
هكذا يتبيَّن أنَّ أرض كربلاء أرضٌ مباركة، فلم يمنع قتل سيِّد الشُّهداء عليها من حلول البركة فيها، بل كانت طينتها مباركة مُقدَّسةً مفضَّلةً على سائر البقاع.
ثمَّ عَمَّت البركة إلى مَن جاءها من زوار الحسين عليه السلام!
فإنَّ الملائكة الذين بالحائر يخاطبون الملائكة الحَفَظَة، ويحدِّثونهم عن الزوار، ويقولون لهم: بَشِّرُوهُمْ بِدُعَائِكُمْ.. بَارِكُوا عَلَيْهِمْ وَادْعُوا لهُمْ عَنَّا (كامل الزيارات ص87).
فتحلُّ البركة على زوّار الحسين عليه السلام، كما حلَّت على بقعته.
لكنَّ الأعجب من هذا هو قول النبيِّ صلى الله عليه وآله قبل شهادة الحسين عليه السلام: أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ (ع) أَنَّ وَلَدِي هَذَا مَقْتُولٌ مَخْذُولٌ، اللَّهُمَّ فَبَارِكْ لَهُ فِي قَتْلِهِ! .. اللَّهُمَّ وَلَا تُبَارِكْ فِي قَاتِلِهِ وَخَاذِلِهِ (اللهوف ص18).
أيُّ معنى عجيبٍ هذا؟!
لقد أرادوا قتل سيد الشهداء ليطفؤوا نور الله، لكنَّ الله تعالى بارك للحسين في قتله! فَعَوَّضَهُ ما لا قيمة له..
كيف جعل الله تعالى البركة للحسين عليه السلام في قتله؟! وما حدودها؟! هذا ما قد لا نُحيطُ به علماً..
لكنَّنا نعرف بعض ما عوَّضه الله تعالى، فقد روي: أَنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَوَّضَ الحُسَيْنَ (ع) مِنْ قَتْلِهِ بِأَرْبَعِ خِصَالٍ:
1. جَعَلَ الشِّفَاءَ فِي تُرْبَتِهِ.
2. وَإِجَابَةَ الدُّعَاءِ تَحْتَ قُبَّتِهِ.
3. وَالْأَئِمَّةَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ.
4. وَأَنْ لَا يُعَدَّ أَيَّامُ زَائِرِيهِ مِنْ أَعْمَارِهِمْ (عدة الداعي ص57).
كلُّ هذه البركة العظيمة هي جزءٌ مما أدركناه..
لأنَّ بركة الله تعالى ليس لها نهاية!
فقد أوحى الله عزَّ وجل إلى أحد أنبيائه: إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ، وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ! (الكافي ج2 ص275).
فلا يتخيَّلَن مؤمنٌ أنَّ لبركة الله نهاية..
ولا يتخيَّلَنَّ أنَّ الله تعالى يبارك في شيء كما يبارك في ما يبذل في محبَّة الحسين عليه السلام..
فهل يخلو مجلسٌ ومأتمٌ على الحسين من البركة؟! وهل يجعل الله البركة في بعض أصناف الطعام وآدابه فلا يجعلها في طعامٍ بُذلَ على محبة الحسين واسمه؟!
هكذا يعتقد المؤمنون..
لقد حلَّت البركة في نفوسهم وأهاليهم وبلادهم وبيوتهم وطعامهم لما ذكروا اسم الحسين عليه السلام.. وحلّت في كلِّ ما بذل في سبيله.
وفقنا الله لإحياء أمره، والمشاركة في عزائه، ونيل البركة فيها، وحشرنا معه سلام الله عليه.
والحمد لله رب العالمين