البحث المتقدم

البحث المتقدم

٣٠ رجب ١٤٤٦

هرقليدس.. الفيلسوف الغامض الذي وحّد الخالقية وأخطأ تقديرها

 

وُلد هرقليدس في أفسوس اليونانية لعائلة ارستقراطية ذات مكانة نبيلة في العام 540 ق.م، وهنالك من يذهب الى أنه ولد في العام 435 ق.م[1]، وقد ورث هذا الفيلسوف منصبا سياسيا ودينيا مرموقا تنازل عنه لصالح أخيه الأصغر[2]، ويقال إنه برغم اعتزال هرقليدس السياسة إلا أنه كان يتدخل بين الحين والآخر في أمور سياسية يرى فيها أرجحية تدخله[3].

كان هرقليدس يميل الى الانعزال والانطوائية، وكان متعاليا على الآخرين، سواء أكانوا من العوام أم من العظام من أبناء قومه، حتى فيثاغورس لم يسلم من ازدرائه الحاد، كان كثيرا ما ينتقد القطيع، ويعتبر نفسه أنه مهمش ولم يعرفه الآخرون بسبب جهلهم له ولفكره، حتى قال مقولات صارت فيما بعد من أبرز الحكم العملية التي يستشهد بها الناس في مواقف معينة، ومن أقواله تلك: ((الحمير تفضل القش على الذهب))، ((الكلاب تنبح على كل من لا تعرفه))، وقد عُرف عنه انتقاده الشديد للديمقراطية، انطلاقا من مكانته الارستقراطية ونظرته للعوام فضلا عن الكبار كما بينا[4].

ولقد تعدى هرقليدس بكبريائه الى مستوى مبالغ به، حتى وصل به الحال الى احتقار وازدراء معتقدات الناس ومعارفهم التقليدية، بل تهجم على هوميروس وهزيود رادا إليهما نشر التخلف والخرافات في المجتمع اليوناني، وقد كان يزدري أيضا العلوم الجزئية، ويعتبر أن العلم الجدير بالاهتمام هو التفكير العميق في المعاني الكلية، الذي عبّر عنه في كتاباته بأسلوب غامض وفخم ومبهم، يميل الى الرمز والإشارة والتشبيه، وقد قيل عن أسلوبه بأنه: "لا يفصح عن الفكر ولا يخفيه، ولكن يشير إليه"، ويدل على ذلك تلك الشذرات المئة والثلاثين التي وصلت إلينا من كتابه، لكن ازدراءه للعلم الجزئي أوقعه في اشكالية الجهل وانعدام المعرفة بالطبيعة، حتى هبط في هذا المجال الى مستوى العامة الذين يمقتهم هو! ومن ذلك أنه كان يعتقد أن غروب الشمس يتم عبر انطفائها في الماء!! وأن قطرها قدم واحدة كما تبدو لنا من الأرض!! لكن هذا لا يعني عدم الاعتراف بفلسفته العميقة التي خلدت اسمه[5].

لم يصلنا عن هرقليدس شيئا مكتوبا عنه بشكل مباشر، فما وصل إلينا كان بالواسطة عن طريق شذرات من كتاب له تناثر هنا وهناك في مؤلفات بعض المفكرين والفلاسفة اليونانيين القدماء، وقد كان أسلوبه كما ذُكر سلفا يميل الى الغموض والصعوبة، حتى لُقب بالغامض تارة وبالمظلم تارة أخرى[6]. وقال سقراط عن كتابات هرقليدس بأن ما فهمه منها كان رائعا، وما لم يفهمه رائع أيضا، ذاكرا أن كتابته تحتاج الى غوّاص ومتعمق حتى يلج الى معاني أفكاره، تلك المعاني التي يشرحها ويعبّر عنها عن طريق أقوال مأثورة قصيرة مكثفة مركزة[7]. وقد توفي هرقليدس في العام 475 ق.م[8].

ويتلخص مذهبه في أن "الأشياء في تغير متصل"، ويمثل هرقليدس لهذا القول صورتان: الأولى في جريان الماء بقوله: "أنت لا تنزل النهر الواحد مرتين، فإن مياها جديدة تجري من حولك أبدا"، والصورة الثانية يمثل لها باضطرام النار، وهي أحب إليه من الصورة الأولى؛ لأن سرعة النار وحركتها أكثر دلالة على التغير، إضافة الى أن هرقليدس يرى أن النار هي المبدأ والعلة الأولى التي تصدر عنها الأشياء وترجع إليها، وهو يرى أن انعدام التغير يعني انعدام الأشياء، فالاستقرار موت وعدم! والتغير صراع بين الأضداد؛ ليحل بعضها محل بعض، إذ لولا المرض لما اشتهينا الصحة، ولولا العمل لما نعمنا بالراحة، ولولا الخطر لما كانت الشجاعة، ولولا الشر لما كان الخير، ويقول في هذا المجال: "أليست النار تحيي موت الهواء، والهواء يحي موت النار، والماء يحيي موت التراب، والتراب يحيي موت الماء، والحيوان يحيي موت النبات، والانسان يحيي موت الاثنين؟"، والوجود عنده موت يتلاشى، والموت وجود يزول، والخير شر يتلاشى والشر خير يزول، فالخير والشر والكون والفساد أمور تتلازم وتنسجم في النظام العام، ولا يمكن مع هذا تحديد خصائص ثابتة للأشياء[9].

وقد اُختُلف حول تفسير فلسفة هرقليدس اختلافا كبيرا، إذ ذهب أرسطو والقدماء الى أنه كان من الفلاسفة الطبيعيين، معللين ذلك بنشأته في أيونيا موطن الفلاسفة الطبيعيين، إضافة الى أن هرقليدس قد قال بأن النار عي العلة الأولى للأشياء، وهذا ما يعني أن اهتمامه كان منصبا بتفسير الكون والطبيعة، وهنالك بعض المحدثين ممن يتابع أرسطو في ذلك، كعالم اللغويات بجامعة كاليفورنيا الدكتور جومبرز، والى حد ما العالم اللاهوتي الألماني إدوارد جوتلوب زللر[10].

ويرى الباحث في التاريخ الفلسفي المصري يوسف كرم أن هرقليدس ينتمي الى الفلاسفة الطبيعيين، وذلك برجوع الأشياء كلها الى النار، وأنها في حالة تبادل مستمر معها، "فالمبادلة متصلة من الأشياء الى النار، ومن النار الى الأشياء، كما يستبدل الذهب بالسلع، وتستبدل السلع بالذهب"، وهو من الفلاسفة الذاهبين الى وحدة الوجود موافقا بذلك فلاسفة ملطية الطبيعيين[11].

ويرى فريق آخر أن هرقليدس ليس من فلاسفة الطبيعة، بل هو متميز عنهم بكونه فيلسوفا ذي طراز خاص، إذ لم يكن مثل فلاسفة ملطا المتصفين بالنظرة العلمية، وإنما كان ذو نزعة صوفية فريدة[12].

وتختلف فلسفته أيضا عن فلسفة المدرسة الايلية، التي تذهب الى أن الموجود الوحيد هو الوجود فقط وفقط، الوجود المتمثل بالثبات والذوات الساكنة التي نراها، وأن الصيرورة أو التغير لا وجود له، فكل صيرورة عبارة عن وهم وخيال، بينما يرى هرقليدس أن الأمر مختلف، فالصيرورة عنده هي الموجودة فقط، أما الوجود والذاتية والثبات فهي أوهام ليس إلا! فهو يرى أن لا شيء باق كما هو، بل كل شيء في حالة تغير وتحول دائم، يقول في ذلك: "نحن ننزل النهر ولا ننزل فيه، فما من انسان ينزل في النهر الواحد مرتين، فهو دائم التدفق والجريان"، بل ذهب هرقليدس الى أكثر من ذلك عندما أنكر ثبات الأشياء النسبية، فلا شيء يبقى على ما هو، وظاهر الثبات النسبي وهم عنده، مثل ذلك مثل الموجة التي تمر على الماء التي نعتقد بأنها هي نفسها، في حين أن الماء يتغير باستمرار مع حركة الموجة، وهذا الشيء استجلبه هرقليدس على بقية الأشياء التي تتراءى لنا على أنها ثابتة، بينما الثبات للشكل فقط، أما في الحقيقة فهي في استحالة دائمة ناتجة من تدفق كميات متساوية من جواهرها، وكل شيء سيال ومتغير[13].

وقد جعل هرقليدس مبدأ العالم وخلقه ـ إن صح التعبير ـ يعود الى النار، وقال في هذا الصدد: ((هذا العالم وهو واحد للجميع لم يخلقه إله أو بشر ولكنه كان منذ الأبد وهو كائن وسوف يوجد الى الأزل، إنها النار التي تشتعل بحساب وتخبو بحساب))[14]، وهو على الرغم من نفيه لخلق الكون من قبل أي إله من آلهة اليونان المعروفة عندهم ومن أي بشر فقد أرجع الخالقية الى النار، وهذه النار ليست النار المعروفة لدينا، بل هي نار معنوية غير مادية.

إن النظريات الكوزمولوجية البدائية في مناطق اليونان أغلبها لم تكن تعرف مفهوم الخلق من لا شيء، باستثناء مفكرين اثنين تطرقا الى ذلك، هما: الأول الشاعر اليوناني فيريكذيس السيروسي، الذي أرجع خلق الكون لذياس، والآخر بحسب ما نقله ذيوغنيس ليرتيوس بأن طاليس الملطي قال: "الكون العظيم هو من خلق الله"، و"الإله غير مخلوق"، وبالتالي فقد جاء هيرقليدس بشيء جديد هو: إن العالم قديم ولم يخلقه أحد، رغم إرجاعه الى المبدأ الأول (النار)، ولا تنافٍ بين القولين، حتى بعض فلاسفة المسلمين قال بقدم الكون رغم اعتقاده بالمبدأ الأول (الله) جل ذكره، ومثل ذلك كمثل الشعاع الصادر من الشمس، فمنذ أن وجدت الشمس وجد شعاعها.

ونلاحظ أن هرقليدس يشير الى أن تحولات النار ستصل في وقت الى أن تعلو فيه قائلا: ((عندما تعلو النار على جميع الاشياء، فإنها سوف تحكم عليها وتدينها))[15]، وهو بهذا يريد أن يبين أن العالم بدأ من النار وسينتهي بها، وهو ((يهدف الى التوحيد بين الإله والنار من جديد؛ لأنه يعتقد بأن وراء التغيّر البادي في عالم المحسوسات وحدة وائتلاف ينبغي علينا إدراكه))[16].

ومما سبق ذكره يظهر أن هرقليدس جعل من النار الإله الأعظم، وهي منتشرة في جميع المخلوقات والكائنات، وهذا المذهب جعله من لفلاسفة القائلين بوحدة الوجود[17]، وهذا مذهبه في نشأة الطبيعة، أما مذهبه فيما بعد الطبيعة فقد أشار الى الكون ليس على صورة واحدة، إذ هو في تحول دائم وصيرورة مستمرة، فكل لحظة يختلف الشيء عما كنا نعتقده في اللحظة السابقة، فكل شيء ينقلب من حال الى حال آخر دائما، من غير أن تدوم على حال لحظة واحدة[18]. وهو يرى أن العالم ((كان أبدا وهو كائن وسيكون نارا حية تستعر بمقدار وتنطفئ بمقدار هذه النار هي الله))[19].

وعلى كل حال فإن فلسفة هرقليدس فلسفة ينتابها الكثير من الغموض والإبهام، وهذا ما حدا بسقراط عندما سئل عن رأيه بكتاب هرقليدس أن يقول: ((عظيم ما قد فهمته، ولكني أعتقد أن ما لم أفهمه كان عظيما أيضا))[20]، وأكثر ما يكون ذلك الغموض وتلك الإبهامات تلك التي تتعلق بآرائه في الإلهيات والخلق وما الى ذلك، فمثلا مفهوم النار عند جاء متعارضا ومتناقضا في كثير من آرائه، فقد جاء متداخلا في مواضع مع مفهوم اللوغوس، وفي مواضع أخرى جاء مختلطا مع مفهوم الإله، ووجدناه أحيانا قد وحد بين النار واللوغوس وذياس!

 

 

 

[1] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، وولد ستيس: 69.

[2] ـ ينظر: الموسوعة الفلسفية المختصرة، نقلها عن الانكليزية فؤاد كامل وآخرون، أشرف عليها زكي نجيب محمود: 494.

[3] ـ ينظر: فجر الفلسفة اليونانية، د. أحمد الأهواني: 100.

[4] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، وولد ستيس: 69.

[5] ـ تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم: 30.

[6] ـ ينظر: قصة الفلسفة، د. زكي نجيب محمود: 38.

[7] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، وولد ستيس: 70.

[8] ـ ينظر: موسوعة الفلسفة والفلاسفة، د. عبد المنعم حفني: 2/ 1469.

[9] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم: 30 ـ 31.

[10] ـ ينظر: فجر الفلسفة اليونانية: 98.

[11] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم: 31 ـ 32.

[12] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة الغربية (العهد القديم)، برتراند راسل: 87.

[13] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، وولد ستيس: 70ـ 71.

[14] ـ فجر الفلسفة اليونانية: 104 ـ 105.

[15] ـ المصدر نفسه: 105.

[16] ـ فكرة الألوهية عند أفلاطون، مصطفى النشار: 55.

[17] ـ الفلسفة الإغريقية، د. محمد غلاب: 1/ 72.

[18] ـ ينظر: قصة الفلسفة، د. زكي نجيب محمود: 39.

[19] ـ تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم: 31 ـ 32.

[20] ـ هرقليدس، د. هدى الخولي: 21.

مواضيع ذات صلة