بدأت أوربا تحولا محوريا في القرن الحادي عشر، إذ برزت ظاهرة دخول المثقفين إلى ميدان الجدل الديني والنقاش الفلسفي، وانتعش الجدل حتى صار له الصدارة على حساب اللاهوت المسيحي، ولاسيما ذلك اللاهوت المتعكز على الإيمان والمهمش لدور العقل! وفي الأثناء نشأت لدى أصحاب الجدل والخطابة (المثقفين) محاولات إخضاع العقائد والدين بشكل عام لقواعد المنطق والعقل، فبرز الحكيم الديني أنسلم محاولا أخذ النمرقة الوسطى بين هؤلاء وهؤلاء.
وأنسلم (1033م ـ 1109م) فيلسوف ولاهوتي إيطالي، اشتهر بدليله الأنطولوجي في إثبات وجود الله، من أهم أعماله: (العظة)، و(المناجاة)[1]. وهو أكبر اسم عُرف في القرن الحادي عشر من الميلاد، ودليله على وجود الخالق ما زال جذابا وفاتنا للكثير من الفلاسفة حتى أيامنا هذه، تعلم في فرنسا واشتهر هناك حتى التف الشباب حوله من أنحاء فرنسا وانكلترا، وصار الدير بفضله معهدا ممتازا، وفي العام 1093م عُين رئيسا لأساقفة كنتربري، وشغل هذا المنصب حتى وفاته سنة 1109م[2].
كان أنسلم مهتما بالاشتغال بمشكلة العقل، وكانت أحوال التفكير في زمانه تنقسم الى قسمين: الديالكتيون في جانب، واللاهوتيون في جانب آخر، فالديالكتيون أرادوا اخضاع العقيدة الى العقل في التحكيم، وأنكروا جراء ذلك كثير من المعتقدات التي تعتمد على العقل كفكرة الافخارستيا[3]، كما أنكروا فكرة اليوم الآخر وغيرها من الأفكار التي تتصل بالعقيدة من حيث هي عقيدة لا تقبل البرهنة العقلية، ومن أشد أنصار الديالكتيين الاسميون، وقامت أيضا حركة مضادة ضد فلسفة أرسطو والفلسفة بشكل عام، وكان بطرس دمياني على رأس هذه الحركة، وقال بعدم إمكان مبدأ التناقض وبطلان فكرة العليّة، لأن العلة الأولى والأخيرة هي الله ـ والله حر حرية مطلقة، وإرادته يمكن أن تصل إلى حد عدم إحداث ما حدث، وهذه الظاهرة نفسها هي التي نجدها في الفلسفة الإسلامية في نفس الوقت عند الأشاعرة، فخط أنسلم طريقا وسطا بين الديالكتيين واللاهوتيين، مخطئا الاثنين معا، فالديالكتيون مخطئون لأنهم بدأوا أولا بالعقل ثم الإيمان، وهو قاصر عن أن يؤدي لوحده إلى الإيمان، ومن جانب آخر خطّأ رجال اللاهوت لأنهم ينصرفون عن تعقل مضمون الإيمان، والواقع أنه لابد من الإيمان لكي يتعقل مضمون هذا الإيمان، فهو يأخذ على الديالكتيين ادعاءهم وعلى اللاهوتيين إهمالهم، ونرى بهذا أن أنسلم قد أرجع العقل بكل محاكماته وأحكامه إلى الإيمان[4].
ويقدم أنسلم أربعة أدلة على وجود الله، ثلاثة في كتابه (المناجاة)، وهي[5]:
1ـ الخير، ويرى حكيمنا أن الناس يعشقون الخير رغم اختلافهم بهذا المقدار، وبما أن كل خير لابد له من علة فإن ذلك يؤدي إلى وجود علل مختلفة لكل خير أو وجود علة واحدة لجميع أنواع الخير، وهذه العلة هي الله تعالى، فهو الخير بذاته وهو خير مطلق.
2ـ دليل الممكن والواجب، وهو قائم على فكرة الوجود، ويرى هذا الحكيم أن الأشياء جميعا تشترك في كمال عام تام هو الوجود، ولكل موجود علة؛ لأن الأشياء ممكنة وليست واجبة، ووحدة الواجب الذي يمكن أن يعد بلا علة، غير أن العلة لجميع الموجودات متمثلة بموجود واحد أول، وهذا الموجود الأول هو الله، ومن ثم نصل إلى موجود بذاته ترجع الأشياء جميعا إليه وهو الله تعالى.
3ـ دليل التفاوت في الكمال، وهو دليل يقوم على فكرة الكمال في الكائنات، فمن المسلم به كما يرى هذا الحكيم أن قسم من الكائنات أكمل من القسم الآخر، وأن الإنسان أكمل هذه الكائنات، وهذا يؤدي في النهاية إلى أن هنالك كمالا أكبر من كل الكمالات التي نلحظها مع الموجودات، وهذا هو الكمال الأول القائم بذاته وهو الله جل ذكره.
أما الدليل الرابع فيعرضه أنسلم في كتاب (العظة)، وهذا الدليل يبين أن لدى كل إنسان فكرة عن موجود لا يمكن أن يُتصور موجودا أعظم منه، وهذه حقيقة إيمانية يقدمها الإيمان إلينا ويجعلنا نؤمن بها، ويترتب على ذلك أن نثبت أن هذه الفكرة الموجودة في العقل موجودة أيضا في الخارج، إذ ورد أن الأحمق قال في قلبه: لا يوجد إله! وسنوضح للأحمق هنا أنه يناقض نفسه في قوله هذا؛ لأن الله هو الموجود الذي لا يتصور أعظم منه، والأحمق يعرف ذلك، ومن ثم ففي عقله على الأقل موجود بحيث لا يتصور أعظم منه، لكن ما لا يتصور أعظم منه لا يمكن أن يوجد في العقل فقط؛ لأن باستطاعتنا أن نتصور موجودا مثله متحققا في الواقع أيضا، ومن ثم سيكون الأخير أعظم من الأول وأكثر كمالا منه، وتكون النتيجة أن ما لا يتصور أعظم منه يمكن تصور أعظم منه!! وهذا تناقض فاضح! وعلى هذا فيوجد في العقل وفي الواقع موجود بحيث لا يتصور أعظم منه، وسبب إنكار الأحمق لوجود الله ووقوعه في التناقض والخلف هو أنه يلفظ في قلبه اسم الله من دون تعقل معنى ما أو تعقل معنى آخر[6].
وواضح من كلامه الآنف أن الإنسان له أن يقول في قلبه شيئا ما أو يتصوره بأكثر من طريقة؛ لأننا نفكر بشيء ما بمعنيين: الأول عندما نفكر بالكلمة الدالة عليه، والثاني عندما نفهم أو نتعقل الشيء ذاته، وهكذا، وعلى المعنى الأول للإنسان أن يتصور الله غير موجود، لكنه بالمعنى الثاني مستحيل تماما! والسبب هو أن لا أحد يتعقل ماهية الله ويمكنه أن يتصور عدم وجوده، حتى ولو قال تلك الكلمات داخل قلبه بغير قصد أو قصد عرضي تماما، إن الله الذي لا يمكن أن نتصور أعظم منه، وكل من يفهم ذلك لابد له من أن يفهم أنه موجود على نحو لا يمكن معه أن لا يكون موجودا حتى في الذهن، وعلى هذا فإن الذي يتعقل أو يتفهم وجود الله لا يمكن أن يعتقد بعدم وجوده.
وقد نص برتراند راسل (1872 ـ 1970م) على أن أنسلم هو أول من قال بالدليل الوجودي[7]، وماثل روبرت سولمون راسل في أن أنسل أول من قال بالبرهان الوجودي[8]، لكن هنالك من يرى عن طريق الاستعراض التاريخي لمسألة الوجود وضرورته أنه يمكن العثور على جذور لهذا البرهان في كلمات سابقين لأنسلم[9]، لكن أنسلم يُعد أول صاغ البرهان بشكل محدد[10].
ومما يجدر بنا ذكره ههنا أن بعض الفلاسفة المسلمين طرحوا برهانا عن الوجود الإلهي يقارب الدليل الأنطولوجي، وإن كانوا لم يدعوا استحضار الفكرة الفطرية للكمال الإلهي مثلما تضمنها الدليل الأنطولوجي، فهذا البرهان لا يحتاج إلى أكثر من تأمل الوجود نفسه كبداية تعريفية للوصول إلى البرهنة على وجود الله، وهذا ما جعل هذا الدليل مبجلا ومحبذا حتى عُدّ الدليل الوحيد الوافي دون سواه! وأشار إلى هذا الدليل الشيخ الرئيس عندما قال: ((تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن السمات إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله [...] فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده من وجود [...] أقول إن هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه))[11].
وملخص دليل أنسلم وموجزه هو أن أكمل الأشياء القابل للفرض موجود في الواقع، وإذا لم يكن موجودا واقعا فهذا يعني أنه غير قابل للفرض، وهذا تناقض وخلاف أنه قابل للفرض.
وقد عارض هذا الدليل جونيلون المعاصر لأنسلم؛ فهذا الدليل موجه إلى من يؤمن بالله سلفا، ويرى جونيلون أن أنسلم يريد اثبات وجود الله للمؤمن به! مع إن الله تعالى لا يمكن لنا الإحاطة به عبر تصوراتنا إلا عن طريق النوع أو الفصل القريب، فهو سبحانه أسمى من أن تحيط به تصوراتنا المحدودة، وخطّأ أنسلم عندما تصور تناقضا بين (ما لا نستطيع تصور أعظم منه) وعدم وجوده! فالتصور الأول إمكانية عقلية ليس إلا، حالها حال تصور جزيرة مثالية في كل شيء، أما الوجود الواقعي لا يثبت إلا بالتجربة والملاحظة، والفكر لا يتحول إلى وجود إلا عن طريق الفعل، والإمكانية لا تصبح واقعا إلا عبر الجهد، فلا يمكن للرسام ـ وهو ما يراه أنسلم ـ أن تكون لوحته موجودة بالفعل بمجرد وجودها في عقله قبل رسمها، فلابد من الفعل لتحقيق اللوحة في الواقع[12].
فما ذهب إليه جونيلون في نقد أنسلم هو أنه ليس صحيحا أن نثبت وجود شيء ما نتيجة لتصورات عقلية، فلا يكفي تصور الماهية حتى يتم إثبات الوجود، فالماهية شيء والوجود شيء آخر؛ فهي تصور ولا صلة لها مع الخارج إذا نُظر الى هذا الخارج في ذاته، ولو كان كما قال أنسلم لأمكننا تصور أي شيء نريده فيوجد!! لكن أنسلم عبر كتاباته يتفق مع جونيلون بأن ما لا يمكن تصوره يوجد بالفعل، فالوجود ليس عين الماهية دائما، فقط مع الله أو الكائن الذي لا يمكن تصور كائن أعظم منه ستكون الماهية عين الوجود[13].
ويرد أنسلم على جونيلون مطالبا إياه أن يعود الى إيمانه وضميره ليجد أنه في نفسه وذاته يعقل وجود الله الذي لا يُتصور أعظم منه، ثم يزيد على ذلك بأن معرفة الله بالتمثيل والتشبيه ممكنة، مستشهدا في هذا السياق بقول القديس بولص: ((إن كمالات الله غير المنظورة تتراءى للعقل في المنظورات))، وهنالك فرق كما يرى أنسلم بين أعظم الأشياء الموجودة والموجود الذي لا يُتصور أعظم منه، وهو كامن في أن أعظم الموجودات يتمثل بموجود نسبي، مفتقرا الى شيء آخر كي يفيض عليه الوجود، بينما الذي لا يُتصور أعظم منه شيء آخر مطلق، وهو ما يعني أن الانتقال من الوجود في الذهن الى الوجود في الواقع ممكن، لكنه واجب وضروري في حالة الموجود الذي لا يتصور أعظم منه، فالله وحده الذي لا يمكن تصوره ليس موجودا[14].
وإن كان هنالك مؤيدون لأنسلم فهنالك معارضون له في جوابه الآنف، إذ يرى كثير من المفكرين والفلاسفة أن ذلك الجواب يمثل مصادرة للمطلوب الأول؛ لأن نقطة انتهائه هي ذاتها نقطة ابتدائه! فهو لم يقدم شيئا عند هؤلاء المعارضين له والمؤيدين لجونيلون، وهذا الخلاف بين الفلاسفة راجع الى انقسام المذاهب والاتجاهات الفلسفية، فالفلسفات التي ترى الوجود ممثلا بوجود الماهيات وشرفيتها على كل مراتب الوجود هي من تؤمن وتتبنى هذا الدليل، بينما المذاهب والاتجاهات الفلسفية التي لا ترى من الوجود العقلي دليلا على الوجود الواقعي أو الخارجي تتبنى فكرة أن في الدليل خطأ منطقي، متمثلا بمصادرة المطلوب الأول[15].
وفي العموم فإن اعتراض جونيلون كان اعتراضا وجوديا، بينما كان رد أنسلم ردا منطقيا جدليا يهدف الى إثبات ما ينفيه جونيلون بالحجج العقلية، غير أن الحجج لا تنفي أو تثبت سوى بحجج مثلها، ويمكن دحضها جميعا (جدليا) بالعقل مادام قادرا على توليد حجج مستندة على اتساق الفكر مع نفسه وعلى مبدأ عدم التناقض ومبادئ العقل الأولى، حتى لو سلك فيلسوفنا آلية التفرقة بين مفهومين تم الخلط بينهما عادة مثل هذه التفرقة التي يعملها بين الفهم والتفكير، فمن من الممكن عدم فهم وجود الله إلا أنه من غير الممكن عدم التفكير فيه، وهذه الآلية لا تتعدى دائرة الجدل الذي يدور حول نفسه مرة واحدة[16].
ومن كل ما سبق نخرج بنتيجة مهمة، وهي أن القديس أنسلم في طرحه للأدلة الثلاثة العقلية في كتاب (المناجاة) لإثبات وجود الله كان فيلسوفا، في حين أنه الدليل الرابع وهو الدليل الوجودي كان لاهوتيا لبس عباءة الفلسفة! وعلى الرغم من ادراج الدليل الوجودي في كتب الفلسفة ضمن الأدلة العقلية إلا أن المدقق في انطلاقته سيجدها نقلية؛ لأنه كان يبحث عن فكرة وجود الله في عقل الإنسان بالفطرة قبل تأثير الخطيئة الآدمية وفق الفكر المسيحي، التي هي أساساً فكرة قائمة على النقل الديني!
[1] ـ ينظر: الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي، كميل الحاج، مكتبة لبنان ناشرون، لبنان، ط1، 2000م: 71.
[2] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012م: 79.
[3] ـ وهي من الطقوس الكنسية الكاثوليكية، التي تعني أن يتحول الخبز والنبيذ الى جسم المسيح ودمه تحويلا بالفعل والجوهر، بعد تلاوة صلوات وأدعية خاصة.
[4] ـ ينظر: فلسفة العصور الوسطى، عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات ـ الكويت، دار القلم ـ بيروت ـ لبنان، ط3، 1979م: 66 ـ 68.
[5] ـ ينظر: المصدر نفسه: 69 ـ 71.
[6] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط: 80 ـ 81.
[7] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند راسل، ترجمة: د. زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012م: 2/ 177.
[8] ـ ينظر: الدين من منظور فلسفي، روبرت سولمون، ترجمة: حسون السراي، العارف للمطبوعات، ط1، 2009م: 53.
[9] ـ ينظر: روح الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، إتين جلسون، ترجمة وتعليق: أ. د. إمام عبد الفتاح إمام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2011م: 70.
[10] ـ ينظر: المصدر نفسه: 88.
[11] ـ الإشارات والتنبيهات، الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا، طبعة: دار المعارف، (د.ت)، القسمان الثالث والرابع: 482 ـ 483.
[12] ـ ينظر: نصوص من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط، حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2008م: 108 ـ 109.
[13] ـ ينظر: فلسفة العصور الوسطى: 72 ـ 73.
[14] ـ تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط: 81.
[15] ـ ينظر: فلسفة الدين، أمل مبروك، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2004م: 108.
[16] ـ ينظر: نصوص من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط: 109 ـ 110.