فيلسوف متقشف زاهد، ومفكر متعمق حاذق، يصوم يوما ويفطر آخرَ، ولم ينعم بالنوم إلا قليلا، اشتهر بجلال التفلسف ونقاء السلوك والأخلاق، فجعله ذلك محببا إلى النفوس بكاريزما عظيمة، حتى امبراطور روما العظيم (جالينوس) أحبه وقرّبه وأغدق عليه، وعرض عليه مساحات كبيرة من الأراضي؛ لينشئ عليها مدينته المثالية التي عزم على انشائها بإحدى مقاطعات ايطاليا، على غرار مدينة أفلاطون الفاضلة، ذلك هو أفلوطين الإسكندري[1]. الذي نعته بعض مؤرخي التراث الإسلامي إبان نهضتهم الفكرية بـ (الشيخ اليوناني)[2].
وُلد أفلوطين في مصر عام 205 م، ثم ارتحل الى روما عام 245م وأسس هناك مدرسة ظل يقودها حتى وفاته عام 270م، وسُمّيت تلك المدرسة بالأفلاطونية الجديدة، وهي تسمية مجازية؛ لأنها لم تكن مخلصة لأفكار أفلاطون الحقيقية، فالأفلاطونيون الجدد ذرية غير شرعية لفيلسوف المثالية العقلانية، إذ مالوا الى جوانب القصور في فلسفة أفلاطون التي ترجع في معظمها الى الأسطورة والتصوف! ثم ربطوها بما عند الشرق من فلسفة صوفية مقاربة لمثالية أفلاطون، وكان أمونيوس ساكاس الباذر لبذرة هذه المدرسة، التي حوّلها تلميذه أفلوطين وطوّرها الى مذهب له أتباع ومناصرون[3].
وهنالك جدل بين مؤرخي الفلسفة في نسبة الأفلاطونية الجديدة، هل هي فلسفة يونانية أم فلسفة قرون وسطى؟ وكلٌ له تبريراته ووجهات نظره، فبعضهم يرى أن فلسفة القرون الوسطى نشأت في تربة الديانة النصرانية وتحت ظلالها وأفيائها، وأن الفلسفة القروسطية إنما وُجدت لخدمة هذه الديانة ومناهضة الوثنية اليونانية، بينما الفلسفة الأفلاطونية الجديدة ليست نصرانية، وليس هدفها الدفاع عنها وتثبيت دعائمها، بل حافظت على روحها الوثنية رغم كينونتها في بيئة مسيحية، فالروح والثقافة اليونانيتان بارزتان فيها وسائدتان، لذلك ينبغي عدّها فلسفة يونانية، أما من يرى أن الأفلاطونية الجديدة ليست فلسفة يونانية فقد استند إلى البعد الزمني الذي يفصلها عن العصر اليوناني، ولأن طابعها لم يكن طابعا يونانيا بحتاً، إذ كان مشوبا بعناصر الإلهام الشرقي، وكان للعامل الجغرافي أثره فيمن يرى أن الأفلاطونية الجديدة ليست فلسفة يونانية، حيث إن مركزها كان في الإسكندرية التي تقع على الجهة الأخرى، التي تقابل أرض اليونان على البحر المتوسط، وهي مدينة عالمية كانت ملتقىً للأجناس ونقطةً لتلاقي الشرق بالغرب[4]. ولكن عدم انتماء الفيلسوف إلى جغرافيا اليونان وعرقهم لا يعني عدم انتساب أفكاره إلى الفلسفة اليونانية، ولعل هذا هو الذي دعا نيتشه أن يقول: ((الفلسفة كانت يونانية، ولكن الفلاسفة كانوا أغرابا))[5]. ولى العموم فإن الأفلاطونية الجديدة كانت ((تستمد استلهامها تماما من فلسفات الماضي من فكر وثقافة اليونان. ولهذا فهي بصفة عامة تصنف باعتبارها المدرسة الأخيرة في الفلسفة اليونانية))[6].
ولعل بعض من رفض نسبة هذه الفلسفة الى الثقافة اليونانية كان بسبب غفلتهم عن التطور الفكري والتدهور السريع على مدى قرون أربعة، فالإسكندرية في عهد البطالسة غيرها في عهد الرومان، الذين استنزفوا خيرات المصريين لصالح روما، الى الحد الذي جعلهم يميلون الى التصوف والزهد والهروب من الحياة! وهذا ما ظهر جليا في لدى أفلوطين[7].
شرع أفلوطين الى تدوين أفكاره في الخمسين من عمره تقريبا، وقد عهد الى تلميذه فورفوريوس السوري مراجعة ما أملاه عليه من رسائل، وقد بلغ عددها أربعا وخمسين رسالة، ولم يقم فيها عرضا مرتبا ومنظما للفلسفة التي تبناها، فهي كانت عبارة عن شروحات لنصوص أفلاطون أو أرسطو أو تعليقات وشروح على النصوص الرواقية والشكوكية، أو كانت ردا على اعتراض ما أو هي أجوبة لأسئلة طُرحت في مدونات من سبقوه من الفلاسفة، صنّف فورفوريوس بعد وفاة أستاذه تلك الرسائل الى أصناف ستة، تضمن كل قسم على تسع رسائل، لذلك دُعيت بالتاسوعات، والتاسوع الأول كان متعلق بالإنسان، والثاني والثالث بما يحيط بالإنسان من عالم محسوس، والرابع كان متعلق بالنفس، والخامس بالعقل، والسادس بالوجود[8].
وفلسفة أفلوطين في الوجود تقوم على أربعة أقانيم: الواحد أو الأول، العقل، النفس، ثم المادة[9]. وهي فلسفة تقوم على وصف طريقين: الأول هابط تدريجي من الواحد أو الخير الى العقل الكلي، الذي يحوي المثل الى النفس بأنواعها المختلفة الى أدنى الحقائق أي الأجسام المحسوسة، وفي هذا الطريق محاولة جادة في بناء مذهب ميتافيزيقي في الوجود، أما الطريق الآخر (الصاعد) يصف النفس في ارتفاعها الى الخير المطلق واتحادها به، فيكون عندئذ بصدد الحديث عن تجربة الاتصال أو الجذب الصوفي[10].
يستند مذهب حكيمنا على إيمانه بإله واحد، إله متعال عن العقل والنوس، ووجوده أصيل وبسيط وأولي: فما ليس بأولي ليس ببسيط[11]. وكان أفلوطين يعني بالواحد اصطلاحا فلسفيا، عبّر به عن المرتبة الأولى من مراتب الوجود، ووحدة الأول لا تعني واحدا في واقع الأمر فحسب، بل هو واحد في التصور الذهني أيضا، ولا كثره تعتريه بأي اعتبار كان، والتركيب أيضا لا يتطرق له بأي حال من الأحوال، فهو بسيط مطلقا وواحد وحدة مطلقة[12].
والواحد أو الوجود الأول هو المبدأ لكل موجود في العالم، وذهب أفلوطين إلى أن فكرة الواحد المستخلص من كل كثرة هي تجريد مستحيل، وحتى قول (الواحد موجود) يتضمن ثنائية للواحد، فهو يرى أن الله تعالى واحد على الاطلاق، وهو الوحدة الكامنة وراء كل كثرة، لا تعدد فيه ولا تمايز ولا حركة، والتفكير يتضمن التفريق بين الموضوع والذات، فالواحد وراء الفكر ويتجاوزه، فالله تعالى في فكر أفلوطين ليس فكرا ولا إرادة ولا نشاطا، بل هو وراء كل فكرة وكل وجود، والمحمولات عنده تحد من موضوعها، وبالتالي فلم يحمل أي شيء على الواحد الأول تنزيها له، أما حمله الواحدية والخير فإنما هما وإن كانتا حال المحمولات الأخر إلا أنه عدّهما تعبيرا عن طبيعة اللامتناهي بشكل لا حرفي، فهما تصوير تشبيهي حُملتا على سبيل المجاز، فهو يؤكد أنه لا يستطيع أحد معرفة أي شيء عن الواحد سوى أنه (موجود)[13].
لقد قرر أفلوطين استحالة وصف الله تعالى بأية صفة واجبة مألوفة، ولعدم استطاعتنا بذلك ذهب الى الاكتفاء بالوصف السالب[14]، وهو يذهب بذلك الى ما يشبه في جانب ما بما ذهب إليه متكلمو المسلمين في الصفات السلبية. فهو يرى أننا لا نستطيع أن نعلم عن طبيعة الله سبحانه شيئا سوى أنه يخالف كل شيء ويسمو على كل شيء.
[1] ـ ينظر: قصة الفلسفة اليونانية، زكي نجيب محمود و أحمد أمين، الناشر مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2017م: 231 ـ 232.
[2] ـ ينظر: نقد نقد العقل العربي، العقل المستقيل في الاسلام، جورج طرابيشي، دار الساقي، بيروت ـ لبنان، ط1، 2004م: 49.
[3] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، وولتر ستيس، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1984م: 303.
[4] ـ ينظر: قصة الفلسفة اليونانية، زكي نجيب محمود و أحمد أمين، مؤسسة هنداوي سي آي سي، المملكة المتحدة، 2017م: 197.
[5] ـ نقد نقد العقل العربي (المستقيل في الاسلام): 76.
[6] ـ تاريخ الفلسفة اليونانية: 299 ـ 300.
[7] ـ ينظر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، أميرة حلمي مطر، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998م: 403.
[8] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012م: 289.
[9] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم: 290
[10] ـ ينظر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها: 409.
[11] ـ ينظر: تاسوعات أفلوطين (التاسوع الثاني)، ترجمة: د. فريد جبر، مراجعة: د. جيرار جهامي ود. سميح دغيم، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1997م: 166.
[12] ـ ينظر: الجانب الإلهي في التفكير الإسلامي، د. محمد البهي، الناشر: مكتبة وهبة، ط6، 1982م: 108.
[13] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، ولتر ستيس: 303 ـ 304.
[14] ـ ينظر: تاسوعات أفلوطين (التاسوع السادس): 509 ـ 512.