البحث المتقدم

البحث المتقدم

٠٩ رمضان ١٤٤٦

الحلقة الثانية عشرة: قواعد السلوك الإنساني السليم

منهج التثبت في شأن الدين (السيد محمد باقر السيستاني)

كان الكلام في القاعدة الثانية من القواعد التي يقضي بها العقل الإنساني وهي مقياس تشخيص الحكمة والفضيلة وقد تقدم مقياس تشخيص الحكمة، والنقطة الأولى المتعلقة به مدى انضباط أطراف المعادلة الثلاثية انضباطاً رياضياً.

النقطة الثانية:

انجبار ضعف أي احتمال بزيادة درجة المحتمل: إن أي احتمال مهما كان ضعيفاً يمكن أن يتحفّز وفق القانون الفطري بزيادة أهمية المحتمل؛ فإذا كان الاحتمال ۱۰ - مثلاً - فاعلاً مع محتمل خطير، فإنّك تستطيع أن تقول: إن الاحتمال الأضعف منه وهو ٩ ٪ يكون فاعلاً مع زيادة درجة على خطورة المحتمل، مع فرض ثبات الجهد والمؤونة.

وهكذا الحال فيما يليه من الاحتمالات في الضعف ولو بلغ ١٪؛ فإنّك إذا زدت ۹ درجات على خطورة المحتمل كان فاعلاً، ويجري هذا القياس حتى في الواحد في الألف والواحد في العشرة آلاف والواحد في المائة ألف والواحد في المليون هكذا.. فكلما أنقصت في الاحتمال درجة وزدت في خطورة المحتمل درجة بقي الاحتمال فاعلاً؛ ولذلك نرى شدة الاحتياطات العقلانية بالنسبة إلى المحطات النووية، أو الدول التي يمكن أن تتصرف على نحو غير مسؤول في شأن النشاطات النووية - من جهة شدّة الدمار الناتج عن أي حادثة من هذا النوع؛ فإذا كان قتل إنسان واحد محتملاً خطيراً فما بالك بقتل آلاف الناس وتدمير البيئة وانتشار الأمراض وتلف الأموال والإمكانات وعدم صلاح المساحة الواسعة من الأراضي للسكن وما إلى ذلك.. ففي مثل هذه الحالات لا بد من الاهتمام باحتمال الواحد في الألف أو أقل من ذلك.

والمحصل من ذلك أن ما عدا العلم القطعي - الذي يبلغ ١٠٠٪ لن يساوي العلم في ترتيب آثار الشيء مساواة مطلقة، بل قد يكون احتمال الضرر بنسبة واحد في المليون فاعلاً إذا كان الضرر خطيراً، وأما الجزم بعدم الضرر فهو مما لا يكون فاعلاً بطبيعة الحال.

٢. انجبار ثقل المؤونة بزيادة درجة المحتمل: هذا.. وما ذكرناه في شأن الاحتمال ينطبق على المؤونة؛ بمعنى: أنّ المؤونة مهما كثرت وثقلت، فإن من الجائز أن يجب بذلها وتحمّلها لأجل تحصيل محتمل ما متى كان هذا المحتمل في غاية الخطورة.. ولذلك قد تجد مشاريع يعمل فيها آلاف الأشخاص لسنين عديدة؛ لأنها - بعد إكمالها - تدرّ نفعاً أكبر من المؤونة التي تبذل في سبيل إنجازها.

قيمة الاحتمال قبل البحث تماثل قيمة ما يحتمل أن يبلغه بالبحث

النقطة الثالثة: إن القيمة الفطرية للاحتمال قبل البحث والتثبت ليست على حد القيمة الفطرية للاحتمال بعد البحث والتثبت؛ بل هو على حد القيمة الفطرية لما يحتمل أن يبلغه هذا الاحتمال بالبحث والتحرّي من درجة عالية.

توضيح ذلك: أنّ الاحتمال على ضربين: الأوّل: الاحتمال قبل الفحص والتثبت ونسميه بـ (الاحتمال غير المستقر)؛ لأنه عرضة للارتقاء بمزيد من البحث والتحرّي.

والثاني: الاحتمال بعد الفحص والتثبت الميسور، ونسميه بـ(الاحتمال المستقر)؛ لأنه غالباً لا يكون عرضة للارتقاء بالنظر إلى استكمال البحث.

مثلاً: إذا كنت تحتمل ضرراً ما في تناول طعام أو السفر إلى مكان ما احتمالاً تبلغ درجته ٥٠٪ فتارة): يكون هذا الاحتمال بدوياً - وذلك فيما لم تكن فحصت عن وجود الضرر وعدمه، وأخرى) يكون الاحتمال مستقراً؛ لكونك بحثت عن المؤشرات النافية والمثبتة للضرر، فخلصت إلى أن احتمال الضرر الفلاني لا يزيد على ٥٠٪؛ لعدم المؤشر على الضرر أو عدمه، أو لتساوي المؤشرات النافية والمثبتة.

وهذه الدرجة من الاحتمال - وهي ٥٠% - رغم أنها درجة واحدة ومحتملها أيضاً واحد في الحالين إلّا أنها تختلف في القيمة الفطرية؛ فالاحتمال بعد البحث والتحرّي يقيم بدرجته الفعلية وهي ٥٠٪؛ فإذا كان المحتمل في مستوى لا يكون مثل هذا الاحتمال محركاً إليه فهذا لا يقتضي عدم فاعلية الاحتمال قبل الفحص بل تكون فاعلية هذا الاحتمال في حد فاعلية أقصى درجة يمكن أن يبلغها ؛ فلو كنت : أن يرتقي احتمال الضرر بالبحث إلى ٧٠٪ وكان هذا الاحتمال كافياً في لزوم توفّي الضرر المفترض، وجب عليك أن تعتدّ بالمحتمل – رغم أن الاحتمال العقلي لا يزيد على ٥٠% - .

وهذه القضية - على الإجمال - وجدانية وواضحة، وقد تنبه لها الأصوليون في علم الأصول فقالوا: إن احتمال الحكم في الشبهة الحكمية قبل الفحص عن الحجة في قوّة قيام الحجة المحتملة على الحكم.

نعم.. إذا كان الفحص يحتاج إلى مؤونته فإن مؤونته تضاف - بطبيعة الحال إلى مؤونة رعاية المحتمل، وحينئذ فلا بد من أن تكون أهمية المحتمل بدرجة تنهض بالاهتمام ببذل كلتا المؤونتين، وسوف نطلق مؤونة رعاية المحتمل على ما يشمل مؤونة الإدراك تغليباً تجنبا عن التكرار.

كيفية جريان المعادلة بين الاحتمال والمحتمل والمؤونة في موارد الفضيلة:

النقطة الرابعة: إن المعادلة الثلاثية المتقدمة كما تنطبق في شأن الحكمة تنطبق أيضاً في شأن الفضيلة ولكن مع بعض الفارق.. وتوضيح ذلك أن هذه المعادلة في مورد الفضيلة تؤثر في زيادة الرجحان ونقصانه وهذا مما لا غموض فيه، ولكن الذي قد يقع مورداً للتساؤل أن هذه المعادلة هل تؤدي في الحالات إلى تحييدنا تجاه الفضيلة؛ بحيث يكون تحري الفضيلة وعدمه سيين، أو تؤدي في حالات أخرى إلى أن يكون ترك الفضيلة راجحاً على العناية بتحصيلها؛ لضعف في احتمال حصولها أو زيادة في مؤونتها؟

وقد يُرجح في بدء النظر أنّ المعادلة لا تؤدي إلى انتفاء رجحان الفضيلة؛ لأن الفضيلة تبقى فضيلة، ويكون تحصيلها فاضلاً مهما ضعف احتمال إدراكه أو كثرت مؤونته:

نعم.. كثرة المؤونة والعناء يمكن أن يؤثر في شأن الفضيلة فيتنزّل الإلزام العقلي بها إلى مستوى الترجيح والاستخباب والندب. كما يمكن أن ينتفي رجحان تحصيل الفضيلة في مورد؛ وذلك فيما إذا قدر استلزام الإقدام على تلك الفضيلة لفوات فضيلة أخرى مثلها أو أزيد منها.

وقد يخرج على ذلك: ما نجده في بعض الأحيان؛ من أن أصحاب المبادئ الإنسانية السامية قد يضحون بالنفس في سبيل مراعاة قيمة فاضلة لا يلزمهم، مراعاتها، مثل: تضحية بعض المؤمنين بأنفسهم في صدر الإسلام، كياسر والد عمار بن ياسر (رضي الله عنه) كي لا ينطقوا بكلمة

الكفر لساناً - وإن كان قلبهم مطمئناً بالإيمان بالرغم من جواز ذلك؛ قال تعالى: (ِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بالإيمان).. ولكنهم مدحوا من قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) على هذا الثبات، وكذلك ضحى جماعة من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) في زمان بني أميّة بأنفسهم؛ كي لا يتبرؤوا منه (عليه السلام) لساناً.

ولكن الواقع أن هذا المعنى لا يصح على وجه العموم، بل داعي الفضيلة قد ينتفي في حال الحرج الشديد أو الضرر الكبير؛ فإننا لا نستسيغ بحسب وجداننا أن يصدق الرجل فيما إذا سأله قاطع طريق عن أنه: هل يوجد لديه مال وأين هو ؟ - وكان للرجل مال كثير من ذهب ونقود وقد أخفاها بنحو ما؛ فلو أنه صدق معه وأخبره بموضعه عُدّ ذلك منه سفهاً لا فعلاً فاضلاً.

وينبه على ذلك: أن من الجائز أن يتخفّف رجحان الفضيلة بضعف الاحتمال وكثرة المؤونة كما ذكرناه، وهو بديهي.

وعليه: فلا استبعاد لجواز أن ينتفي فضل الفضيلة من رأس فيما لو ضعف الاحتمال جداً، أو كثرت المؤونة بالقياس إلى مستواها.

نعم.. لا صعوبة في إجراء الموازنة بين مستوى المدرَك ومستوى العناء والضرر فيما لو كان المطلوب من قبيل الحكمة؛ لأن الحكمة والعناء من سنخ واحد؛ فإن الحكمة بمعنى تحصيل النفع والجهد والعناء يمثل ضرراً للإنسان - فيكون مؤونة؛ فهما من سنخ واحد؛ وبالتالي تمكن الموازنة بينهما واختيار الأقل منهما.

ولكن العناء والضرر ليسا من سنخ الفضيلة، حتى تتضح كيفية الموازنة بينهما - فيسهل تنقيص درجة العناء والضرر من درجة الفضيلة ويستحصل الخالص منهما؛ وبالتالي تبقى الفطرة الإنسانية هي الحكم في ذلك؛ فقد يكون الحكم واضحاً في بعض الموارد بينما يعرضه الإبهام في بعضها الآخر.

 

 

مواضيع ذات صلة