إبراهيم عليه السلام وتجربة إحياء الطيور: دراسة تحليلية في البنية الفنية والمعاني التفسيرية
السيد محمد حسين الطباطبائي في الصافي عن النبي صلى الله علیه وآله وسلّم: من فسر القرآن
فليتبوأ مقعده من النار. أقول: وهذا المعنى رواه الفريقان، وفي معناه أحاديث أخر رووها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام وفي منية المريد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوا مقعده من النار أقول: ورواه أبو داود في سننه.
العدد الثالث عشر شهر رمضان - ١٤٤٢هـ - آيار ٢٠٢١م.
وفيه عنه الله قال: «مَن قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجم) بلجام من نار. وفيه عنه قال: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».
أقول: ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وفيه عنه قال: «أكثر ما أخاف على أمتي من بعدي رجل يتأوّل القرآن يضعه على غير مواضعه».
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: «مَن فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ فهو أبعد من السماء».
وفيه عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا قال: «الرأي في كتاب الله كفر». أقول: وفي معناها روايات أُخر مروية في العيون والخصال وتفسير العياشي وغيرها قوله: «من فسّر القرآن برأيه»، الرأي عبد هو الاعتقاد عن اجتهاد، وربّما أطلق على القول عن الهوى والاستحسان وكيف كان لما ورد قوله: برأيه مع الإضافة إلى الضمير عُلم أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون بالملازمة أمراً بالاتباع والاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي وأهل بيته الا على ما يراه أهل الحديث، على أنه ينافي الآيات الكثيرة الدالة على كون القرآن عربياً مبيناً، والأمرة بالتدبر فيه وكذا ينافي الروايات الكثيرة الأمرة بالرجوع إلى القرآن وعرض الأخبار عليه.
بل الإضافة في قوله: برأيه تفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال بأن يستقل
المفسّر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلّم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ونحكم بذلك : أنه أراد كذا كما نجري عليه في التقارير والشهادات وغيرهما، كل ذلك لكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازاً والبيان القرآني غير جارٍ هذا المجرى على ما تقدّم بيانه في الأبحاث السابقة، بل هو كلام موصول بعضه ببعض، في حين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كما قاله علي فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها، ويجتهد في التدبّر فيها كما يظهر من قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كثيراً) (النساء - (۸۲).
وقد مرّ بيانه في الكلام على الإعجاز وغيره فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف، وبعبارة أخرى إنما نهى عن تفهم كلامه على نحو ما يتفهم به کلام غيره، وإن كان هذا النحو من التفهم ربما صادف الواقع، والدليل على ذلك قوله الا الله في الرواية الأخرى: «مَن تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» - فإن الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة - ليس إلا لكون الخطأ في الطريق، وكذا قوله عل الله في حديث العياشي: «إن أصاب لم يؤجر».
ويؤيده ما كان عليه الأمر في زمن النبي فإنّ القرآن لم يكن مؤلّفاً بعد ولم يكن منه إلا سور أو آيات متفرّقة في أيدي الناس، فكان في تفسير كلّ قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد والمحصل : أن المنهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسّر على نفسه من غير رجوع إلى غيره، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، وهذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة، وكونه هو السنة ينافي القرآن ونفس السنّة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآن.
ومن هنا يظهر حال ما فسّروا به حدیث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه على أقوال:
أحدها: أنّ المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير وهي علماً على ما أنهاه السيوطي في الإتقان اللغة، والنحو والتصريف والاشتقاق، والمعاني والبيان والبديع، والقراءة، وأصول الدين، وأصول الفقه، وأسباب النزول وكذا القصص والناسخ والمنسوخ، والفقه، والأحاديث المبينة لتفسير المجملات والمبهمات، وعلم الموهبة، ويعني بالأخير ما أشار إليه الحديث النبوي: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.
الثاني: أنّ المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
الثالث: التفسير المقرّر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلاً والتفسير تبعاً، فيرد إليه بأي طريق أمكن، وإن كان ضعيفاً.
الرابع: التفسير بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى وهذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب على ما ذكره السيوطي في الإتقان، وهنا وجوه أُخر نتبعها بها.
السادس: أنّ المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة والتابعين ففيه تعرّض لسخط الله تعالى.
السابع: القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره، نقلهما ابن الأنباري.
الثامن: أنّ المراد به القول في القرآن بغير علم وتثبت، سواء علم أنّ الحق خلافه أم لا.
التاسع: هو الأخذ بظاهر القرآن بناءً على أنه لا ظهور، له بل يتبع في مورد الآية النص الوارد عن المعصوم، وليس ذلك تفسيراً للآية، بل إتباعاً للنصّ، ويكون التفسير على هذا من الشؤون الموقوفة على المعصوم.
العاشر: أنه الأخذ بظاهر القرآن بناءً على أنّ له ظهوراً لا نفهمه، بل المتبع في تفسير الآية هو النص عن المعصوم فهذه وجوه عشرة، وربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، وكيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل على أنّ بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدّم في المباحث السابقة، فلا نطيل بالتكرار.
وبالجملة فالمتحصّل من الروايات والآيات التي تؤيدها كقوله تعالى: ﴿أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ، الآية، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ﴾ (الحجر-۹۱)، وقوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَحْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ القِيامَةِ) (فصلت - ٤٠) الآية، وقوله تعالى ويُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ﴾ (النساء - ٤٦)، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (الإسراء-٣٦)، إلى غير ذلك أنّ النهي في الروايات إنّما هو متوجّه إلى الطريق وهو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين.
ولیس اختلاف كـلامـه تعـالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ وسرد الجمل، وإعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يُراعى في كلام عربي، وقد قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ هُمْ (إبراهيم-٤)، وقال تعالى: وهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل - ۱۰۳)، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف-۳).
وإنما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.
[تفسير الميزان: ج ۳، ص ٧٥]