البحث المتقدم

البحث المتقدم

١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦

دراسة في رباعيات الجرداق (فؤاد سجعان جرداق)

المقدّمة

لاقت الرباعيات اهتماماً كبيراً من الشعراء في العصر الحديث، ومرجع ذلك بطبيعة الحال إلى إقبال القرّاء عليها، وتفضيلهم إيّاها على القصائد والمطوّلات.

     وترجع أهمية الرباعيات إلى ما تتسم به من إيجاز لا ينحصر في الشكل البنائي الذي يتألف من أبيات أربعة فحسب، وإنّما يشمل كذلك المضمون الذي يطرح الشاعر عِبرَه فكرته وموضوعه، حيث تتناول كلُّ رباعية موضوعاً مستقلاً ينتهي بنهاية أبياتها الأربعة.

       وفؤاد جرداق واحد ممّن كان لهم النصيب الوافر من هذا الفنّ الجميل، فقد نشر رباعياته في مجلة (العرفان) اللبنانية، وغطّت مساحة واسعة من مواقف ومشاكل المجتمع العربيّ، مختلف الأصعدة.

        وما دعانا إلى جمعها ودراستها ونشرها هو أنّ هذا الشاعر مغمور –يا للأسف- فقد بحثنا قدر المستطاع عن دواوينه فلم نجد سوى ديوانين طُبع أحدهما في لبنان ولم نجد المطبوع أيضاً، وكذا لم نعثر على دراسةٍ لنتاجه الشعريّ، وبعد أن تيسّر لنا العثور على نسخة من العرفان آثرنا جمعها وترتيبها حسب الأعداد، ومن ثمّ دراستها دراسة موضوعية فنية.

      اعتمدنا في هذا العمل على ما كان منشوراً في (العرفان)، وعلى مجموعة من كتب اللغة وكتب الأدب والنقد وماله علاقة بموضوعة الرباعيات، وعلى الرغم من أنّنا لم نرَ أيّة محاولة لدراسة شعر الجرداق، فقد تكون هذه المحاولة  فريدة في وجودها ونوعها،  إلّا أنّ ذلك لا يعدّ فضلاً منّا على الشاعر، بل واجب علينا في نشر تراثه وشعره.

 

 

 

التمهيد

نبذة عن حياة الشاعر

أولاً: ترجمته

 نسبه ومولده

    هو :فؤاد سجعان جرداق -شاعر لبناني صحفي- وُلد في بلدة جديدة (مرجعيون) في جنوبي لبنان عام(1915م/1334هـ)  .

 

 نشأته و عمله

    عاش في لبنان وتلقى تعليمه الأوليّ في مدرسة (مرجعيون) الرسمية، ثم انتقل إلى (دير المخلّص)؛ لينخرط في سلك الرهبنة راغباً في متابعة دراسته، ولم تطل مدّة بقائه أكثر من عام، فوجد نفسه غير مهيَّأ لأن يصبح كاهناً، فترك الدير متوجهاً إلى بلدة (سليمة) في سوريا، وهناك التحق بمعهدها الزراعيّ، وتخرّج فيه حاصلاً على شهادة في الهندسة الزراعية.  وبعد عدة أعمال عيّن مدرساً في مدارس عدّة منها: الجامعة الوطنية في بلدة (عالية)، والثانوية الوطنية في جديدة (مرجعيون) إلى جانب ثانوية (بيروت) الوطنية، كما عمل في مجال الصحافة ، و أصدر جرائد أسبوعية في عهد الانتداب الفرنسيّ ودخل السجن مراراً؛ لبعض قصائده .

 

 نتاجه الشعري

خلّف لنا الشاعر ديواني شعر هما:

•             ديوان (الهواجس( جمعه أصدقاؤه بعد وفاته. صدر في عام 2002م عن نادي جديدة مرجعيون.

•           ديوان (المنعشات) .


 وفاته

    توفّي عام (1385هـ/1965م) في بلدته التي وُلد فيها (مرجعيون)[6].

   

ثالثاً: مفهوم الرباعيات

تعرف الرباعية لغة:(ومسـتعربه هو الرباعي ويكون على وزن بحر الهزج في الشـعر العربـي ويتكـون مـن أربعـة أجـزاء ، ولكـن كـل بيت من هذا الوزن يكون على بيتين عربية)[7].

وفي الاصطلاح لا تختلف عنه في اللغة، كونها نمط أو نوع أو فنّ شعريّ ظهر أولاً في الشعر الفارسي قبل أن ينتقل إلى العربية، ويتسم بجملة من الخصائص ويتكون من أربعة أجزاء، وجاء في كشّاف اصطلاحات الفنون (هو بيتان من الشعر متفقان في الوزن والقافية، وليس من شرطه موافقة المصراع الثالث)[8]

 سبب تسمية الرباعي

 اقترنت لفظة(الرباعيات) بشعرنا العربي المعاصر، بمصطلح (الدوبيت), وقيل أنه مأخوذ في الأصل عن الفرس[9]  ، ومعناه البيتان، وظهر في الشرق مثل ظهور الموشح في الأندلس والمغرب، والاسم المذكور(الدوبيت)، مركب عندهم من لفظتين (دو) الفارسية ومعناها الاثنان، و(بيت) العربية، ذلك أن الفرس لم يكونوا لينظموا أكثر من بيتين[10] ، وعلى أية حال فالمستنتج من ذلك أن الدوبيت أو الرباعية كلاهما واحد في البناء وإن اختلف الرأي في التسمية.

شروط كتابة الرباعية

والرباعية كأي فنٍّ شعريّ له شروط وخصائص لكتابته، فمن شروطها أنّها:

  • يجـب أن تكـون الرباعيـة وحـدة متكاملـة مسـتقلّة عمّـا قبلهـا ومـا بعـدها فـي المعنـى.
  • تكون مكتوبة على وزن ( فَعْلُنْ مُتفاعِلُنْ فَعولن فَعِلُنْ) أو من مستخرجات بحر الهزج[11].
  • يشترط في الرباعية أن تكون متحدة في القافية في المصاريع الأول والثاني والرابـع ، أمّـا المصراع الثالث فمن حقّ الشاعر أن يجعلـه متفقـاً مـع بقيـة القـوافي أو مختلفـاً عنها،  أمّا إذا جاءت القوافي الأربعة متحدة سمّي هذا الرباعي بـ(الرباعي الكامـل)، وإذا جـاءت القافيـة الثالثـة مختلفـة سمّي هذا الرباعي بـ (الضعيف).
  • يجـب أن تكـون جميـع المصـاريع علـى وزن واحد ، وأن يكون هذا الوزن من مستخرجات وزن الهزج[12].

    ومن خلال ما تقدّم نصل إلى أنّ الرباعية فنّ له شكله ومضمونه الخاصّين به، كما  أنّ له سمات خاصّة اتسم بها كغيره من فنون الشعر كالإيجاز، والوحدة العروضية والموضوعية، وكذا الفكرة المطروحة فيها، وبساطة الألفاظ وسهولة استخدامها.

تعريف بمجموع رباعيات الجرداق في العرفان

  إنّ الأعداد التي نشرت النصوص من مجلة  (العرفان) كانت (12) عدداً ، ضمّت بين صفاحتها (127) رباعيةً ، وبما أنّ كل رباعية تتكون من بيتين شعريين عندها يكون مجموع الأبيات هو (154) بيتاً، ولأنّ المقام لا يتسع في المجلة لإيراد المجموع الكامل الذي جمعناه، لذا قمنا بوضع الهوامش على الأبيات وهي تشير إلى وجود النصّ في مجلة العرفان –لمن أراد الرجوع_ وذلك عن طريق ذكر المجلد ومن ثمّ العدد والصفحات على سبيل المثال: (مج1/العدد1/ الصفحة1) فليُلاحظ.

المبحث الأول

الموضوعات الشعرية

   فؤاد الجرداق من الشعراء الذين غلب عليهم الطابع النقديّ لكثير من الأحداث التي عاصرها، والمواقف التي شاهدها، فضلا ًعن الحالات الاجتماعية التي كان يتعايش معها، فجاءت رباعياته على هذا النحو من التعدّد في الأغراض والموضوعات، كالحكمة، و الغزل، والشعر الوطنيّ، ومواضيع أخرى.

أولاً : الهجاء:

      هو أحد موضوعات الشعر، ويتناول فيه الشاعر بالذم والتشهير عيوبَ خصمه المعنوية والجسمية، وهو نقيض المدح، ف  يعبّر به الشّاعر عن عاطفة الغضب و الاحتقار  أو الاستهزاء، و يمكن  تسميته فن (الشّتم والسباب)؛  لأنّه على عكس المدح، وفي القصيدة الهجائية نجد نقائض الفضائل التي يتغنّى بها المدح فالجهل ضدّ العلم، والجبن ضدّ الشجاعة، والبخل ضدّ السخاء، والغدر ضدّ الوفاء...إلخ، وللهجاء في الشعر أساليب منها:

      وجاء هذا الغرض الشعريّ في رباعيات الجرداق  بشكلٍ كبير،  لكنّه لا يهجو شخصاً بعينه ويسلبه فضائله، ويخلع عليه الرذائل أو ما شاكل ذلك، وإنّما يهجو وينقد الوضع الذي كان عليه الشعب العربي.

ولتسليط الضوء على نقد الجرداق وهجائه السياسيّ فلنسمعه في النصوص الآتية:

ماذا أقول بموطن حكامه
 

 

ظلامه ورئيسه مرؤوسه
 

وزراؤه أوزاره ورجاله
 

 

أصلاله والمومسات تسوسه[13]
 

      وفي هذه الأبيات يعرض لنا الشاعر عن مدى حيرته واستيائه في وصف حال وطن حكامه ورؤساؤه وقادته وكلّ من هم في موقع السلطة، والجدير بالالتفات إليه هو قوله كلمة (وطن) نكرة لا معرفة ففي ذلك دلالة على أنّ المقصود بذلك ليس (لبنان) وإنّما كلّ وطنٍ عربيّ حكامه على تلك الشاكلة.

وقوله:

إنّ شعباً حكامه أنجاس
 

 

لهو شعب قد طلقته الحواس
 

ورمته يد الزمان ببؤس
 

 

وغزاه الإملاق والإفلاس[14]
 

 هذه الأبيات واضحة المعالم فهي تبيّن حال كل الشعوب التي يحكمها مَن وصفهم بالأنجاس لابدّ من أنها تؤول إلى الفقر المدقع والإفلاس.

وكذلك قوله:

ما الاجتماع سوى فوضى منظمة
 

 

منهاجها الفذّ حبّ الذات والطمع
 

والناس قسمان مكدود ومنتفع
 

 

هذا من الرزق محروم وذا جشع[15]
 

      وهنا يهجو اجتماع مجلس الأمن أو الأمم المتحدة فهو يصفه أنه اجتماع فوضوي لا خير من ورائه سوى حبّ الذات الطمع والجشع بدلالة قوله ( والناس قسمان مكدود ومنتفع ومحروم وجشع).

     يتضح ممّا سبق أنّ الشاعر كان ذا لسان سليط في هجائه للسياسة وللطبقة الحاكمة الظالمة، وهذا ما أودعه السجن كما أسلفنا، إلّا أنّه كان اللسان الصادق للشعب، بوجه الظلم ، فهو بذلك يعطينا صورة متكاملة عن الشعوب العربية التي لا ترضى بالظلم ولا بالفقر ولا بالجهل.

      وفي المرأة له هجاء يبين من خلاله عن نكث العهد من قبل فتاتين، وأنّه ليس بمستاء ممّا حدث كونه أعلم بغدر النساء ونكثهنّ العهود على حدّ قوله، جاعلاً صفة الغدر فيهنّ من أصل خلقتهنّ فيقول:

إذا نكثت عهدي سعاد ومريم
 

 

فما أنا مستاء ولا متألم
 

لعلمي بأن الغدر في الغيد عادة
 

 

طبيعية والكر خلق محكم[16]
 

ولو أمعنت النظر إلى ما سبق وجدت أنّ فن الهجاء لدى شاعرنا لم يكن مقتصراً على الجانب السياسي فقط، وإنّما تعدّى إلى هجاء الملوك والزعماء والرؤساء والوزراء وغيرهم، وإن كان ذلك يُعدّ سياسياً  إلّا أنّه يحسب هجاءً لذوات، كما هجا المرأة كونها كيانا قائما بحد ذاته.

ثانياً :الحكمة:

     وشعر الحكمة يُقـال لمن أراد بهـا المـواعظ، والأمثال التي ينتفع بها الناس[17]. لأنّ مَن يكتب بيتاً في الحكمة إنّما يبدي رأيه الشخصيّ، وفلسفته الخاصّة به على ما يشاهده أو يفعله.

   ويصطلح على الحكمة على أنها (علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية فهي علم نظري غير آلي...)[18]، لذا فالحكمة هي الفلسفة ذاتها أي معرفة الأشياء بحقيقتها وماهيتها والتفقه فيها أيضاً، والحكمة هي صفة الحكيم وهي كذلك الكلام الذي يقل لفظه ويجلّ، معناه والحِكميون هم الفلاسفة[19].

     وعلى هذا النحو نرى أنّ شاعرنا قد أكثر من هذا اللون الشعري في رباعياته فهو من خلالها ينشر تجربته الحياتية الشخصية وتجربته المعرفية المستمدة من واقعه المعاش فنسمعه يقول:

كن حكيماً إذا طلبت المعالي
 

 

فالمغالاة لا تفي بالأماني
 

ربما أدّت الزيادة يوما
 

 

طالبا للوقوع بالنقصانِ[20]
 

      وهنا  يشير ويدعو الإنسان إلى أن يكون حكيماً في طلبه للعلى، لأنّ المغالاة لا تؤدّي به إلى ما يصبو إليه، وإنّ الزيادة في طلب الأماني ربما تؤدي يوما بالإنسان إلى النقصان، وهنا رسالة إلى التزام الحكمة والعقل في الطلب لكي يكون الحصول على المعالي لا يودّي بك إلى الهلاك أو الخسران، وهذا تفعيل لدور العقل والمنطق السليم في الطلب.

ثالثاً: الغزل

     إنّ الغزل في الشعر هو : الذي يُقال في النساء ووصفهن والتشبّب بهن...، وتغزَّل أي تكلف الغَزَل،... ورجل غَزِلٌ : مُتَغَزِّلٌ بالنساء[21].

     إنّ كلّ إنسان خليط من العقل والعاطفة، فلا بدّ وأن يمرّ هذا الكائن بحالة من العنفوان العاطفيّ أو التجربة العاطفية مع الجنس الآخر، فتنعكس على  نفسه فيترجمها بشيء من الكلام الشعري، لذا  فلم يغب هذا الفنّ عن رباعيات الجرداق على الرغم من قلته التي بلغت (3) رباعيات، ألّا أنّها تشكل التفاتة في شعره، ولبيان تلك التجربة فلنسمعه يقول:

تعشّق من الغادات كل مليحة
 

 

فمالك في ذا الكون غير الهوى سلوى
 

ولا تك في سر الغرام مكتّما
 

 

هو الحب فاشرح ما تيسر لمن تهوى[22]
 

     فجاء غزله مشوباً بالحكمة فهو من جانب يصرّ على عشق الفتيات المليحات مشيراً إلى أن لا  سلوى للقلوب سوى الهوى والعشق، ناهياً عن كتم العشق والغرام، وآمراً بشرح الصدر بحب من تهوى، وكلام الشاعر هنا ربما فيه شيء من التجربة لذا قلنا أن كلامه جاء مشوباً بالحكمة الخاصة أو الرأي الخاص به.

وفي قوله:

كن حشيماً إذا هويت العذارى
 

 

فالعذارى الوقيح لا تهواه
 

ورهيبا إذا عشقت الغواني
 

 

فالغواني تهوى الذي تخشاه[23]
 

     إشارة إلى اتّخاذ الحب حبّاً عذرياً وروحياً بعيداً عن المجون والفسوق واللهو، بدلالة قوله ( كن حشيماً)، فهو يدعو إلى الاحتشام والأدب حتى في العشق والحب، ونرى من خلال ما سبق أنّ الشاعر لم يكن غزله غزلاً ماجناً فاحشاً، بل كان روحياً طيباً نقياً عذرياً، يسمو بالإنسان إلى التعالي عن الرذيلة واتخاذه الفضيلة حتى في العشق والغرام.

     رابعاً: الوطن

      للوطن مكانة خاصة في قلوب الشعوب كونه الأرض الحاضنة للشعب والأم الرؤوم له وبما أن الشعب خليط من الناس المختلفة الثقافة والفنون فكلٌّ يعبّر عن حبه لوطنه بطريقته الخاصة فالرسام بريشته والمسرحي بأدائه والشاعر بكلماته .

   وممّا نراه في شعر الجرداق هو حبه للبنان موطنه الأم ومسقط رأسه فيقول:

عشقتك يا لبنان عشق متيم
 

 

كليم الحشى دامي الجوارح ولهان
 

فأنكرتني والوجد يلهب مهجتي
 

 

واغرقت في ظلمي الشديد وحرماني[24]
 

     فهنا يبين شاعرنا شدّة حبه وتعلقه بوطنه الأول واصفاً عشقه له بالمتيّم الموجوع  الجوارح والحشى، الهائم الولهان، على الرغم من أنّ وطنه أنكره أو حرمه أو ظلمه، لكنه ظل يحبه حباً يلهب في مهجته، وفي ذلك صورة رائعة من صور الحب والوفاء للوطن.

       ولنسمعه وهو يعرب عن حبه لأمته العربية ويدعو إلى التوحّد الذي يفضي إلى توطيد الأركان الشامخة والمفاخر العالية فيقول:

سنسعى لنحيي وحدة عربية
 

 

تسد عراها من مقيم وهاجر
 

إلى بيرق في سدرة العرب خافق
 

 

يوطد أركان العلى والمفاخر[25]
 

سادساً: الفخر والحماسة

      والفخر كما  هو معروف انه فنّ من فنون (الشعر الغنائي يتغنّى فيه الشاعر بنفسه أو بقومه)[26] لذا اتفق النقّاد و المؤرّخون أن يجعلوه و الحماسة باباً واحداً، لأنّ الحماسة ليست سوى فخراً[27]، ومن ذلك نرى ان شاعرنا تطرق لمثل هذا الفن من الشعر بقوله:

وما كنت يوماً للمقامر صاحباً
 

 

وما أنا للسكير يوما بصاحب
 

ولم أتعرض للنساء بزلة
 

 

أعاب عليها من غوان كواعب[28]
 

      فهو يفخر بنفسه أنّه لم يكن صاحباً للمقامرين ولا للسكيرين، فضلاً عن فخره بنفسه أنّه نأى عن مصاحبة النساء ولم يزل به قدمه إلى الرذيلة وهذا قمّة الفخر الذاتي والاعتزاز بالخلق القويم لديه.

    أمّا عن الحماسة والفخر الجمعي فهو يؤكّد على الجهاد والدفاع عن حياض العراق جاعلاً من رفعة الأمة برفعة العراق وسقوطها بسقوطه فيقول:

علم اليقين بني العروبة فاعلموا
 

 

أنّ العراق قسوطكم بقسوطه
 

فجهادكم بجهاده ونجاحكم
 

 

بنجاحه وسقوطكم بسقوطه[29]
 

     ونلمس ممّا سبق أنّ الشاعر آثر الفخر الذاتي أكثر من الفخر والحماسة الجمعيين إلّا أنّه أبدع فيهما غاية الابداع.

سابعاً: الشعر الاجتماعي

      أخذ الشعر الاجتماعي من رباعيات الجرداق الشيء غير اليسير فهو موزّع ما بين نقد لحالة اجتماعية أو كلام عن الظلم، أو عن الصداقة، أو الحديث عن الفقر، أوعن الأم، وغيرها، ففي وصف ظلم القوي للضعيف يقول:

سمعت صراخاً فاستبان لناظري
 

 

خيال مخوف في الظلام يلوح
 

رأيت قويا عاقداً حبل جوره
 

 

بعنق ضعيف والضيف يصيح[30]
 

    ففي هذه الرباعية يضع نفسه كالسامع لصراخ وألم الضعيف بعد استغلال القوي له وهنا عكس لنا صورة من صور المجتمع الذي خيمت عليه القسوة والاستغلال بصورة بشعة ممثلا هذا الاستغلال بالحبل الملفوف حول عنق الضعيف. وفي الصداقة يقول:

أوالي صديقي كلما كان صادقاً
 

 

بعهدي وإن مال الصديق أميل
 

أينكث عهدي الخائنون وأرتضي
 

 

موالاتهم إنّي إذن لذليل[31]
 

      وهنا يعرض الشاعر لنا صورة عن الوفاء والولاء للصديق والصداقة المشروطة بالصدق والوفاء بالعهد والوعد، وأنّه يميل مع ميل صديقه إن كان في الحق ، معرباً عن ذلّه إذا ما والى الخائن الكذوب، وفي ذلك شيء من الفلسفة والحكمة في اختيار الصديق.

      وعن الأمة يرى أنّ الوقت حان لنهوض الأمة من كبوتها ورجوعها إلى سابق عهدها العتيد الجميل، وهو منوط بنهوض الأم وصلاحها؛ لأنّ فساد الأمة بفسادها وصلاح  الأمة بصلاحها، فيقول:

آن أن تنهض من كبوتها
 

 

غادة أرهقها جور الطغاة
 

تنهض  الأمة بالأم فإن

ن

 

فسدت فالذنب ذنب الأمهات[32]
 

وعن الفقر والعجر والكسل يقول:

يأبى القناعة طبع المرء منقبة
 

 

والصبر يأنفه ذو الجدّ والعمل
 

إنّ القناعة مثل الصبر ناشئة
 

 

عن التخاذل والإعياء والكسل[33]
 

     فهو يرى أنّ الشخص الجادّ الدؤوب يأبى القناعة ، كما يأنف من الصبر ويعدّه تكاسل عن العمل تحت مسمى (الصبر) فذلك يعدّ تخاذلاً وتكاسلاً عن العمل وزيادة الانتاج.

       

 وكذا قوله:

الشر في الناس إرث من سلالتهم
 

 

والخير مظهر تدجيل وتمويه
 

والظلم في النفس مخبوء ومستتر
 

 

والعزم يظهره والعجز يخفيه[34]
 

     وهنا يبدي رأيه الشخصي في الشر ويعدّه إرثاً من سلالة البشر، وما الخير إلّا مظهر للتمويه كما الظلم في الناس مخبوء في نفوسهم وهو رأي عائد الى قائله ليس بالضرورة أن يكون خطأً أو صواباً.

ثامناً: موضوعات أخرى

     وتشمل الكلام عن الخير والشر وعن الزراعة والاهتمام بالمزارع والفلاح، ففي الكلام عن الخير والشر يقول:

الخير والشر في الإنسان منقبة
 

 

كمينة في مطاوي النفس تستتر
 

حتى إذا ما أثار الحال جذوتها
 

 

شبت بأفعالها تبدو وتنتشر[35]
 

وفي شعره عن الزراعة يقول:

إنّ الزراعة أسّ كل حضارة
 

 

وعلى رعايتها العلى تتحقق
 

ما من شعوب أهملت فلّاحها
 

 

إلّا وعاجلها الهلاك المزهق[36]
 

وقوله:

كم يميت الفلّاح في الترب حبا
 

 

ثم يحييه إذ عليه يدوس
 

عزِّزوه وكبروا لجناه
 

 

وارحموه فإنّه قديس[37]
 

       ففي كلّ ما سبق يشيد شاعرنا بدور المزارع  والفلاح وأهمية الزراعة في بناء البلد، واصفاً إيّاها بأنّها أُس الحضارة وأساس بنائها، فضلا ًعن أنّه يرفع من شأن الفلاح لدرجة أنه شبّبه بـ(القدّيس) المهاب المحترم وهو يؤدّي دوره المهم في المجتمع، داعياً إيّاه إلى ترك أحاديث السياسة -التي لا تسمين ولا تغني-  وبذل قصارى جهده في استصلاح أرضه ومشاتله ومغارسه.

المبحث الثاني

الخصائص اللفظية والمعنوية

    وتتضمّن هذه الدراسة الشكل البنائيّ لرباعيات الجرداق من حيث اللفظ والتركيب والموسيقى والإيقاع والصورة الفنية وما تتضمّنه من أساليب بلاغية.

أولاً:  اللفظ والتركيب

      إنّ التآلف في الكلام الشعري ناتج عن مزج بين الألفاظ المتناسقة بالمبنى أو المعنى لتعطي بذلك (شكل البيت الشعريّ)، والذي يحدّد مدى تأثيرها بالمتلقي  أو عدمه هو (الأسلوب) وهو (المعنى المصوغ في ألفاظ مؤلَّفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام، وأفعل في نفوس سامعيه... ينقسم الأسلوب إلى ثلاثة أقسام: أسلوب علمي, وأسلوب أدبي, وأسلوب خطابي)[38]. وعلى هذا الأساس بنى شاعرنا الجرداق رباعياته.

التركيب:

    غلبت الجملة الأسمية على رباعيات الجرداق وفي ذلك دلالة على الثبات وهو غالباً ما يهجو أو يسلط الضوء على حالة ما هي أشبه بالثابتة، فاستخدامه الجملة الأسمية دلالة على أنّ الوضع الثابت في حينه ولا بدّ من أن يتغير في يوم ما وهذا ما نلمسه في قوله:

في كلّ عهد يأسُنا يتقمّص
 

 

ورجاؤنا بضلاله يتقلّص
 

هذا يدس وذا يساوم خلسة
 

 

والشعب ميت والحكومة ترقص[39]
 


     وهنا استخدم الجملة الأسمية في أول كلامه للدلالة على الثبات الجاري في اليأس والرجاء في كل يوم، ومؤكداً ذلك بتقديم الخبر من الجار و المجرور(في كل) على المبتدأ (يأسنا) وهذا التقديم فيه دلالة على التخصيص من الناحية البلاغية.

كما استخدم الجملة الفعلية في بعض المواضع للدلالة على التغيير كقوله:

أتيت على الوجود بلا اختيار
 

 

وأتركه غداً دون اختيار
 

وأحيا في الوجود ولست أدري
 

 

بأني في وجودي غير دار[40]
 

     تكلّم الشاعر هنا عن أنّه جاء الحياة بدون اختيار منه وسيتركها دون اختيار منه أيضاً،  ولكي يبين حال الأنسان الذي خلق وجاء الحياة وسيموت دون اختيار منه، وأنه في  حالة من التغيير لا الثبات فلا الحياة باقية، ولا الموت باقٍ، فاستخدم هنا أسلوب الجملة الفعلية الدالة على التغيير.

ومن الأساليب التي استخدمها الشاعر في رباعياته أسلوب النداء كما في قوله:

يبعثون الهراش في الناس حتى
 

 

يستغلوا نتاج ذاك الهراش
 

أيها الناس والحياة وميض
 

 

هل كشفتم شريعة الأوباش[41]
 

وقوله:

أيها الناس كيف هذا السكوت
 

 

وألوا الحكم كلهم طاغوت
 

أوقعوا الشعب بالهلاك وراحوا
 

 

يتكدون باسم الشعب يموت[42]
 

     والواضح من الأبيات السابقة أنّه استخدم أسلوب النداء بـ(أيها)، فضلاً عن أنّ المنادى هم ( الناس والعرب) وفي ذلك دلالة واضحة أنّ نداءه للمجموع  والمقصود به المجتمع؛ ليلفت نظره إلى ما يدور حوله وإلى أمور ربما كان المجتمع يجهلها، فالشاعر هنا كان بموقع المسؤول والناصح والمرشد لأهله ومجتمعه.

واستخدم أيضا أسلوب الاستفهام بقوله:

قد عشت في هذا الوجود معذبا
 

 

ماذا أراد الله من تعذيبي
 

أبكي الحقيقة في الخليقة صارخا
 

 

أين العدالة يا سماء أجيبي؟[43]
 

وقوله:

أيها الظالم في أحكامه
 

 

أين من يحميك من منتقم
 

وإلى أين ستغدو هاربا
 

 

إن هذا الكون سجن المجرم[44]
 

     وفي أساليب الاستفهام التي وردت يتضح أنّ الشاعر غلّب عليها صفة التعجب والاستنكار فمثلاً في قوله (ماذا أراد الله) فهنا يتعجب من تعذيب الله سبحانه له وفي موضع آخر يقول (أين العدالة) وهو يستنكر وجود العدالة أيضاً، في حين تغيرت لغته من الاستنكار إلى التحذير في قوله ( أين من يحميك ، أين ستغدو هاربا) ففي ذلك تحذير للظالم من أنْ لا مكان سيأويك من المنتقم .

وفي أسلوب النفي يقول:

لا شيء يخلد في الوجود ولا له
 

 

عدمية لكنه يتحول
 

تتبدل الأعراض في أجسامنا
 

 

أما الجواهر في لا تتبدل[45]
 

    وفي هذا الأسلوب مسألة عقدية فلسفية معروفة، ويؤكد عليها وهي أن لا شيء يبقى في هذه الدينا ولا شيء خالد فيها، واستخدم أسلوب النفي المباشر بـ(لا) النافية للجنس وكرّرها في الشطر نفسه زيادة في توكيد المسألة بقوله( لا له).

ثانياً: الموسيقى و الإيقاع

  من مميزات النصّ الشعريّ هو الإيقاع الموسيقيّ المتناغم ؛ لان الموسيقى يُعزى إليها جمال الشعر[46]، و>لديها القدرة على تجسيد الإحساس المستكنّ في طبيعة العمل الشعري نفسه<[47] ، حتى أنّ لها وقع في أذن السامع والشاعر على وجه التحديد لما تمتلكه  أذنه الموسيقية الشديدة الإرهاف، فإن حدث اضطراب أو خلل ما في الموسيقى أو الوزن ما يجعل الشعر يُستهجن ، يُخرجُهُ من حدّ القبول([48]).

ومن الضوابط تؤطّر العمل الشعري، هو الإطار العروضي لأنه(إيقاع منتظم للظواهر المتراكبة وهو الخاصية المميزة للقول الشعري)[49]، إذن فالوزن والقافية هما ضابطان متلازمتان في البناء الجمالي الظاهري للقصيدة.

    أمّا ما يخصّ الايقاع الخارجي فكما أسلفنا أن الرباعية لها وزن واحد وبناء واحد وهو لا يخرج عن (مفعولُ مفاعيلُ مفاعيلُ فعل) إلّا أن ما رأيناه في رباعيات الجرداق فهو مخالف لهذا الشرط فقد كتب رباعياته على ستة أبحر هي: الخفيف والكامل والطويل والبسيط والرمل والوافر.

        لذا فإنّ المستنتج من ذلك أنّ الجرداق لم يلتزم بالوزن الخاصّ بالرباعيات، وعلى هذا فإن تسمية الرباعيات ماهي إلّا تسمية لغرض شيوعها وشهرتها بين الناس.

     أمّا القافية وهي الضابط الثاني من ضوابط الموسيقى الخارجية  فقد استخدم شاعرنا حروف الهجاء كلّها رويّاً إلّا حرفَ (الذال)[50].

     وفي الموسيقى الداخلية استعمل الشاعر جملة من الأساليب والمحسنات البديعية التي تعطي للبيت الشعري رنيناً موسيقياً يفضي على البيت رونقاً وجمالاً، ومن تلك الأساليب:

التكرار:

      ويعرف لغة (التكرار بفتح التاء : الترداد والترجيع من كرَّ يكرّ كرَّا وتكراراً، والكر الرجوع على الشيء ومنه التكرار، وكرّر الشيء وكركره أعاده مرة بعد أخرى) [51].

واصطلاحاً هو (أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة باللفظ أو المعنى)[52]، وتقول نازك الملائكة أنّ التكرار في الشعر خاصّة هو :( إلحاح على جهة هامة من العبارة يعنى بها الشاعر أكثر من عنايته بسواها)[53]. ونجد أن عبارة نازك ربما أكثر دقة فالتكرار في الغالب قد لا يكون في الكلمة بل في جملة كاملة تؤدّي غرضاً هاماً فيلحّ على تكرارها الشاعر لتؤدي غرضها المتوخى منها، أو تكرار بالمعنى مع تغير الألفاظ ،فضلاً عن أدائها لأسلوب التوكيد بالتكرار من جهة أخرى.

وبناء على ما سبق نجد أن ظاهرة التكرار في رباعيات الجرداق أخذت الشقين معاً باللفظ والمعنى ومن ذلك قوله:

 

أنا لا أمدح الأنام فإني
 

 

فوقهم في كمال ذاتي وحسي
 

فإذا شئت مدح شخص لفضل
 

 

كان أولى من مدحه مدح نفسي
 

وقوله:

أنا لا أمدح الأنام فإني
 

 

فوقهم في مراتب ومنازل
 

فبأي النصوص في أي شرع
 

 

يمدح الصاعد الذي هو نازل؟
 

ومن يقرأ يرى ذلك بينا جلياً أن الشاعر استخدم أسلوب التكرار في البيت الأول من كل رباعية لفظاً ومعنى فاستخدم الشطر الأول بكلا البيتين من دون تغيير كما لم يغير في الشطر الثاني سوى ثلاث كلمات (كمال ذاتي وحسي) ومن حيث المعنى فهو في الرباعيتين ينأى عن مدح الناس الذين هم دونه مرتبة ومنزلة وكمالاً ذاتياً كما يرى هو ذلك، زيادة على أن الشاعر باستعماله هذا التكرار كانت غايته التوكيد، إلّا أنّ هذا التكرار أعطى للرباعيتين وقعاً موسيقياً جميلاً.

وقد يكون التكرار بتكرار بعض المفردات مثلاً في قوله:

لماذا وجدنا العقل قل لنا
 

 

أ للموت بعد الكد والهم والعنا
 

فبئس حياة أيها العقل للشقا
 

 

وبئس مصيرا أيها العقل للفنا[54]
 

فهنا تكررت مفردة العقل (3) مرات فضلاً عن اقتران العقل بمفردة أخرى بعده في الشطرين الاخيرين (العقل للشقا، العقل للفنا) فهذا التكرار وهذا الاقتران أعطى لنا قطعة موسيقية جميلة خصوصاً وهو آثر التناغم والتوازي الكلمي في (العقل للشقا، العقل للفنا) فكلاهما بنفس الوزن والترتيب والوقع الموسيقي.

الجناس:

 وهو واحد من أبرز الوسائل اللّغويّة لتكثيف النّغم الدّاخلي، وإحداث نغمات موسيقيّة مُتصاعدة، وممّا استخدمه الشاعر قوله:

خدعوا السلامة بالضلالة فالتوَوا
 

 

ظمأى بعيون الدماء وما ارتوَوا
 

قل للطغاة الناكثين عهودهم
 

 

هلك الرواة المرجفون وما روَوا[55]
 

وقوله:

ما هذه الأحلام والأحداث
 

 

يا أيها النّكّال والنّكّاث؟
 

خلّوا العروبة إن شرع نبيها
 

 

ما نصّ أنكم لها وُرّاث[56]
 

ونرى في الأبيات السابقة أن الشاعر أكثر من أسلوب الجناس وذلك لما فيه من رنّة موسيقية جميلة تألفها الأذن السامعة، ولما فيه من حلاوة لفظ تفضي على البيت الروعة والجمال، ففي قوله (التووا و ارتووا، نكال نكاث)، كلّها تعطي لدى السامع متعة في السمع وهو يحسّ بقرعها لمسامعه.

التصريع:

من المُحسّنات اللّفظيّة الّتي تعمل كالضّابط الإيقاعي، ويقع في الشِّعر فقط، دون النّثر، يُستخدم عند افتتاح القصيدة، أو يُستخدم كتصريعٍ داخلي عند الانتقال من غرضٍ إلى آخر، والرباعية كما عرفناها تكون متحدّة القافية في المصاريع (الأول والثاني والرابـع) وأنّ أغلبها يأتي مصرّعاً، وهذا ما التزمه  الجرداق في بدايات بعض رباعياته ومنها:

في كلّ عهد يأسنا بتقمّص
 

 

ورجاؤنا بضلاله يتقلّص
 

هذا يدس وذا يساوم خلسة
 

 

والشعب ميت والحكومة ترقص
 

وقوله:

أتيت على الوجود بلا اختيار
 

 

وأتركه غداً دون اختيار
 

وأحيا في الوجود ولست أدري
 

 

بأني في وجودي غير دار
 

فنلاحظ التزام الشاعر  بالتصريع في الشطرين الأوليين من الرباعيتين وزناً وتقفيةً. وهوما يزيد البيت جمالاً ووقعاً موسيقياً يُطرب المسامع.

الطباق:

وهو أيضاً من المحسنات اللفظية البديعية التي تعدّ من مقومات الموسيقى الشعرية وهذا ما نجده في بعض رباعيات الجرداق ومنها:

لم يجبني الغني من أين جاء المـ
 

 

ال هذا إليه والأرزاق
 

قلت هذا عيش الفقير المعنّى
 

 

سلبته يداك يا سَرّاق[57]
 

وقوله:

أنا حيّ لم أدر أم انا ميت
 

 

حار أمري في عالم أنا فيه!
 

لم أجد في الأحياء لي من مثيل
 

 

لا ولا في الأموات في من شبيه[58]
 

فقد أورد شاعرنا هنا جلمة من أساليب الطباق التي أدت بدورها التناسق المعنوي   فأفضت بذلك صورة فنية عن الحياة والموت والغنى والفقر في الوقت ذاته كما في قوله (غني فقير، حي ميت) .

ثالثاً: الصورة الفنية:

      إنَّ الصورة الشعريّة مُرتبِطة بالخيال؛ فهي وليدة خيال الشاعر وأفكاره؛ إذ يتيح الخيال للشاعر الدخول خلف الأشياء واستخراج أبعاد المعنى؛ لذلك ينبغي أن يكون الشاعر صاحب خيال واسع؛ لكي يتمكّن من تفجير أفكاره وإيصالها إلى المُتلقِّي[59]. والصورة الفنية تتشكل من أربعة عناصر رئيسية هي: العنصر الظاهري ، والعنصر الباطني، والانفعال ، وقيمة الصورة وجديتها[60]، وفي شعر الجرداق تتجلى الصورة الفنية في بعض رباعياته ومنها:

التشبيه:

في قوله:

الفرق بين طلاحهم وصلاحي
 

 

كالفرق بين ظلامهم وصباحي
 

أنا كم شدوت لهم بشعري طائراً
 

 

غرداً فجازوني بقصّ جناحي[61]
 

       فهو هنا يشبه طلاح الفاسدين وصلاح نفسه كالفرق بين الليل الذي عبّر عنه بالظلام وبين نور الصباح، فرسم بذلك الشاعر صورة بيانية جميلة باستخدام أسلوب التشبيه معطياً بذلك معنى قريبا إلى ذهن المتلقي ومستوحى من واقعه المعاش.

الاستعارة:

وهي من الفنون المهمة التي يتكئ عليها الشعراء في رسم الصورة الفنية الشعرية كما في قول الجرداق:

أقول لسلمى وهي في المرج تعلب
 

 

ونار الهوى في صدرها تتلهب
 

تعالي نقضي صفار الوصل ساعة
 

 

فسوف بنا الأيام تودي وتذهب[62]
 

وقوله:

ليس للشاعر المحلّق قوم
 

 

لا ولا موكن له أو زمان
 

فهو في الكون خالد يتسامى
 

 

بخيال لا يحتويه مكان[63]
 

 وفي تلك الأبيات استخدم الشاعر جملة من الصور الاستعارية الجميلة كاستعارته لـ(نار الهوى) و (الشاعر المحلّق) وهي استعارة مكنية فيها تشخيص وتجسيد، وقد وفّق الشاعر وخياله في استخدام هذه الاستعارات لرسم الصورة الخيالية الشعرية الفنية بشكل جميل.

الخاتمة

ومن خلال ما عُرض في الدراسة نصل إلى ما يأتي:

  1. إنّ الشاعر فؤاد الجرداق واحد من الشعراء العرب المغمورين  والذين لم تمتد إليهم يد الدراسة والبحث.
  2. ابداعه في هذا الفنّ الشعريّ (الرباعيات) وحسن توظيفه له مع ما يتناسب والموضوعات التي عالجها فيه.
  3. لم يأخذ الجرداق من الرباعيات سوى (التسمية والفكرة) كونها الأكثر شيوعاً في الشعر من اسم (الثنائيات أو المزدوجات أو الدوبيت)؛ وذلك لأنّه خالف بعض قواعدها كالوزن والتصريع.
  4. جاءت رباعياته سهلة جميلة تناولت الكثير من الموضوعات ولم يتكلف فيها الشاعر لا معنى ولا لغةً،  واتّسمت بوضوح المعاني والدلالات والابتعاد عن الغموض.
  5. إكثَاره من فنّ الهجاء والنقد السياسيّ وكذا الحكمة والفلسفة في موضوعاته، ولم يتطرق إلى فنّ الرثاء في رباعياته.

 

المصادر والمراجع

  1. أدب العرب في العصر الجاهلي: حسن الحاج حسن، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ، بيروت، ط1، 1984م.
  2. أسس النقد الأدبيّ عند العرب: أحمد بدوي، دار النهضة، القاهرة، 1979م.
  3. الأعلام: خير الدين الزركليّ، دار العلم للملايين، بيروت.
  1. البلاغة الواضحة في البيان والمعاني والبديع: علي الجارم ومصطفى أمين، تحقيق: قاسم محمّد النوري، دمشق، ط1، 2014م. 
  1. التجديد الموسيقيّ في الشعر العربيّ: رجاء عيد، منشأة المعارف، الاسكندرية، 1987م.
  2. التعريفات: علي الجرجاني، تحقيق: نصر الله تونسي، شركة القدس ، القاهرة، ط1، 2007م.
  1. خزانة الأدب: عبد القادر البغدادي ، تحقيق: عبد السلام  هارون، الهيئة المصرية للكتاب، ط1،  1997م.
  1. دراسات في الأدب الجاهليّ:  سعد بوفلاقة، منشورات باجي مختار، الجزائر، ط1،2006م .
  2. دروس البلاغة: حفني ناصف وآخرون،  مكتبة أهل الأثر، ط1، 2004م.
  3. ديوان الدوبيت في الشعر العربي في عشرة قرون: كامل مصطفى الشيبي، دار الثقافة بيروت، 1972م.
  4. الصورة الفنية في النقد الشعريّ: عبد القادر الرباعيّ، دار العلوم للطباعة والنشر، ط1، 1405هـ/1984م.
  5. فيض القدير: جلال الدين السيوطيّ، تحقيق: أحمد عبد السلام، دار الكتبة العلمية، بيروت.
  6. فن التقطيع الشعري والقافية: صفاء خلوصي، بيروت، ط3، 1966.
  1. قضايا الشعر المعاصر :نازك الملائكة ، دار العلم للملايين، بيروت، ط6، 1981م.
  2. قوالب (الدوبيت) الشعرية النشأة –التطور- الشكل- المضمون: باقر جواد الزجاجي وجعفر علي عاشور، مجلة جامعة أهل البيت (ع) العدد 18/ السنة 2015م.
  1. لسان العرب:  محمّد بن مكرم بن منظور، مؤسسة الأعلميّ، بيروت، ط1، 2002م.
  2. معجم المؤلّفين: عمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت.
  3. المعجم الفلسفي: جميل صليبا، دار ذوي القربى، ط1،1385هـ.
  4. المعجم في معايير أشعار العجم: شمس الدين الرازيّ، تصحيح: محمّد بن عبدالوهاب القزويني وآخرين،  جامعة طهران، 1373ش.
  5. من روائع الأدب الفارسيّ: بديع محمّد جمعة، دار النهضة العربية، بيروت ، ١٩٨٣م.
  6. موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: محمّد علي التهانويّ،  مكتبة لبنان، بيروت، ط1،1996م
  7. نظرية البنائية في النقد الأدبيّ: صلاح فضل، مطبعة الأمانة، القاهرة، ط1، 1988 م.
  8. النقد الأدبي: أحمد أمين، دار القلم، بيروت، ط1، 2010م.
  9. شبكة الرحاب الإلكترونية. www.alre7ab.com

 

 

[1] الأعلام: الزركلي: 5/159، وينظر: معجم المؤلّفين: عمر رضا كحالة: 4/329.

[2] شبكة الرحاب الإلكترونية: www.alre7ab.com.

[3]شبكة الرحاب الإلكترونية: www.alre7ab.com.

[4] ينظر الأعلام: 5/159.

[5] الأعلام: 5/159.

[6] شبكة الرحاب الإلكترونية: www.alre7ab.com.

[7] المعجم في معايير أشعار العجم: شمس الدين الرازيّ: 115.

[8] موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم: محمّد علي التهانويّ:1/ 842

[9] ينظر: ديوان الدوبيت: كامل مصطفى الشيبي: 17-18 

[10] ينظر:  فنّ التقطيع الشعري: صفاء خلوصي: 291.

[11] قوالب الدوبيت الشعرية النشأة التطور الشكل المضمون: باقر الزجاجي وجعفر علي عاشور، مجلة جامعة أهل البيت (ع): ع18/ 2015م/ ص126.

[12] ينظر : من روائع الأدب الفارسيّ: بديع محمّد جمعة: 215-216.

[13] العرفان: مج43/2/146.

[14] العرفان: مج44/2/152-153.

[15] العرفان: مج46/5/415-416.

[16] العرفان: مج46/2/128-129.

[17] فيض القدير: السيوطيّ: 2/524.

[18] التعريفات: الجرجاني: 154.

[19] ينظر المعجم الفلسفي: جميل صليبا: 1/491.

[20] العرفان: مج44/1/79.

[21] ينظر:  لسان العرب مادة (غزل).

[22] العرفان: مج44/2/152-153.

[23] العرفان: مج44/2/152-153.

[24] العرفان: مج48/1/74-75.

[25] العرفان: مج50/1/57-76.

[26] أدب العرب في عصر الجاهلية: حسن الحاج حسن: 121.

[27] ينظر: دراسات في الأدب الجاهلي (النشأة و التطور و الفنون و الخصائص): سعد بو فلاقة: 81 .

[28] العرفان: مج48/1/74-75.

[29] العرفان: مج46/9/815-816.

[30] العرفان: مج46/2/128-129.

[31] العرفان: مج44/1/79.

[32] العرفان: مج48/1/74-75.

[33] العرفان: مج44/1/79.

[34] العرفان: مج44/1/79.

[35] العرفان: مج44/1/79.

[36] العرفان: مج48/1/74-75.

[37] العرفان: مج48/1/74-75.

[38] البلاغة الواضحة: علي الجارم و مصطفى أمين: 13.

[39] العرفان: مج43/4/409.

[40] العرفان: مج44/2/152-153.

[41]  العرفان: مج46/5/415-416.

[42]  العرفان: مج46/5/415-416.

[43]  العرفان: مج46/5/415-416.

[44] العرفان: مج48/1/74-75.

[45] العرفان: مج44/2/152-153.

[46] ينظر: النقد الأدبي: أحمد أمين:64.

[47] التجديد في الموسيقى في الشعر العربي: رجاء عيد: 9.

[48] ينظر: أسس النقد الأدبي: أحمد أحمد بدوي: 329.

[49] النظرية البنائية في النقد الأدبي: صلاح فضل: 71.

[50] ينظر رباعيات الجرداق في العرفان.

[51] لسان العرب: 5/135 مادة (كرر).

[52] خزانة  الأدب: البغدادي: 1/361.

[53] قضايا الشعر المعاصر: 27.

[54] العرفان: مج48/10/989.

[55] العرفان: مج46/9/815-816.

[56] العرفان: مج46/9/815-816.

[57] العرفان: مج43/1/36.

[58] العرفان: مج44/1/79.

[59] ينظر: دروس البلاغة: حفني ناصف وآخرون : 125-123.

 [60]ينظر: الصورة الفنية في النقد الشعري: عبد القادر الرباعي: 86-88.

[61] العرفان: مج43/4/409.

[62] العرفان: مج50/1/57-76.

[63] العرفان: مج48/1/74-75.

مواضيع ذات صلة