إذا كان الكندي قد عُدّ فيلسوفا للعرب فإن الفارابي هو فيلسوف المسلمين بلا مدافع، حتى ان الشيخ الرئيس ابن سينا تخرّج على كتبه وتصانيفه على حد قول ابن خلكان، ويذهب (منك) في كتابه (Melanges) صفحة (342) الى أن فلسفة ابن سينا لا نجد فيها شيئا سوى وصولها عند الفارابي!! في حين عدّه (ديتربصي) مؤسس الفلسفة العربية[1]، وإن كان الفارابي حقا بهذا التميّز لكن مقولة (ديتربصي) فيها من التهميش الصارخ لدور الكندي الريادي في الفلسفة الإسلامية، وعلى الرغم من أن آثار الكندي كانت ذات صلة بعلم الكلام والطبيعة كما أشار (دي بور) غير أن أبا يعقوب هو المؤسس الحقيقي للفلسفة الإسلامية، فقد كانت كتبه كثيرة في مجال الفلسفة، وهي أوضح طرافة وأكثر، وأبعد عن الخط والتوفيق المتكلف والمصطنع، وأبعد كذلك عن العجمة فكريا ولغويا[2].
ولد أبو نصر محمد بن محمد بن طرّخان الفارابي عام 259هـ في (وسيج)، وهي منطقة تابعة لفاراب، وفاراب مدينة واقعة ضمن بلاد الترك، وكان والده قائدا في البلاط التركي، قدم الى بغداد شابا، وبدأ يستحصل العلوم حتى ألم بالمنطق والنحو والفلسفة والموسيقى والرياضيات وغيرها، وكان يجيد التركية والفارسية، بل بالغ البعض حينما جعله يجيد سبعين لسانا!! وقد اكتسب ثقافة واسعة جعلت منه أول فيلسوف كبير في الإسلام، وأهلته أن يُلقّب بـ (المعلم الثاني)، فهو بالنسبة للمسلمين كأرسطو (المعلم الأول) لليونانيين، أما مذهب الرجل الديني فأغلب القرائن والمؤشرات تدلل على أنه كان شيعيا، وترك الفارابي بغداد متجها الى حلب عام 330هـ، حيث إمارة الحمدانيين الشيعة، وقد احتفى به سيف الدولة الحمداني واهتم به أيما اهتمام؛ لما كانت تتميز به فلسفته من طابع خاص يتماشى مع ما كان ينادي به أئمة الشيعة، زار مصر لاحقا، ثم توفي في دمشق سنة 339هـ وعمره ثمانون عاما[3].
أما شخصية الفارابي فقد كانت ميالة إلى الزهد والتصوف، وكان كثيرا ما يميل إلى العزلة والتأمل، كان زاهدا بالمناصب التي لو أرادها لحصل عليها؛ بفعل مكانته من الأمراء ولا سيما أمراء الدولة الحمدانية في حلب ودمشق، حتى قيل أن سيف الدولة الحمداني قد أغدق عليه بالنعم والهدايا، ولكن الفارابي أبى إلا أن يكتفي بالقليل منها بما يسد حاجاته الضرورية، ولما وفد إلى دمشق وأقام بها لم يُرى إلا عند مجتمع المياه أو متشابك الأشجار يكتب ويؤلف، وفي الليل كان يستنير بمصابيح الحراس للقراءة والكتابة، فهو عالم واسع الثقافة وموسوعي المعرفة، أما مسألة اللغات التي يجيدها فهي أقرب ما تكون إلى الأساطير، لكن القدر المتيقن هو أنه كان يتكلم اللغات التركية والعربية والفارسية والكردية، وهذا واضح عبر بعض كتبه وبالخصوص كتاب الموسيقى الكبير[4].
لقد أنشأ الفارابي مذهبا فلسفيا متكاملا، وقد قام بالدور الذي قام به أفلوطين في الأفلاطونية الحديثة، حتى قيل بحقه أنه كان أفهم فلاسفة الإسلام وأكبرهم ولم يبلغ غيره رتبته، وذُكر أنه سُئل يوما: من أعلم الناس بهذا الشأن أنت أم أرسطو؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامذته، وقيل أن الفارابي كتب على كتاب النفس لأرسطو بخطه: قرأت هذا الكتاب مئة مرة! كما نُقل عنه أنه قال: قرأت السماع الطبيعي لأرسطو أربعين مرة، وأرى أني محتاج إلى معاودة قراءته! وهذا ان دل على شيء إنما يدل على صبره وشدة عزيمته، وهو كان كذلك على الرغم من قوة تفكيره وذكائه، ولم يكن الفارابي تلميذا لأرسطو إلا في الطبيعيات والمنطق ومبادئ الميتافيزيقيا، أما في الإلهيات والأخلاق فقد كان أفلاطونيا[5].
وكما كان أرسطو أول فيلسوف قد صنّف العلوم فالفارابي يُعد أول مسلم قدم نظرية في تصنيف العلوم، وقد صنفها إلى نظرية وعملية، والعلوم النظرية عنده هي التي تحصل بها معرفة الموجودات التي ليس للإنسان فعلها، وهي تشمل (علم التعاليم، والعلم الطبيعي، والعلم الإلهي)، أما العلوم العملية فهي التي تحصل بها معرفة الأشياء التي شأنها أن تفعل، والقوة على فعل الجميل منها، وتشمل (علم الأخلاق، وعلم السياسة)، وحينما جاء إلى تصنيف كتابه (إحصاء العلوم) فقد طبّق ما رآه في نظريته، حيث قسّمه إلى خمسة فصول تحتوي على ثمانية فصول رئيسة، وهي: علم اللسان، علم المنطق، علم التعاليم، علم الطبيعة، العلم الإلهي، العلم المدني، علم الفقه، وعلم الكلام[6].
يُعد الفارابي من طليعة فلاسفة الإسلام الذين اهتموا بالبحث عن الحقائق الموجودة وراء الوجود والموجود، وقد كان لمساهماته ومنجزاته الفلسفية والدينية والاجتماعية دورا في استحقاقه المكانة العلمية التي تبوأها، وقد كان الفارابي وما زال قدوة مثالية لدى الكثير من المفكرين؛ لما تحلت به أبحاثه من أهداف وما نتج عنها من نتائج رائعة.
كان الفارابي ذا نزعة منطقية، وهذا واضح في كثير من كتاباته ولا سيما المتعلقة بنظرية الوجود الفارابية إن صح هذه التسمية، إذ عمد إلى تقسيم الوجود تقسيما عقليا منطقيا من حيث الوجود إلى واجب وممكن.
وواجب الوجود هو الموجود الأول، وهو مبدأ كل الموجودات، وهو الكامل الذي لا يعتريه نقص، وكل ما سواه لا يخلو من نقص ما أو أكثر، فهو أفضل الوجود، ومن كمال الوجود في أرفع المراتب، فواجب الوجود دائم الوجود بذاته، لا يحتاج إلى غيره، فهو قائم بجوهره وهو عقل محض[7].
وهو العلة الأولى والسبب الأول، ليس له ندّ ولا شريك، منزه من جميع النقائص، وهو بجوهره عقل بالفعل معقول بالفعل، لا يحتاج أن يكون معقولا إلى ذات خارجة عنه تعقله، بل بنفسه يعقل ذاته فيصير معقولا بالفعل[8].
وواجب الوجود بسيط بساطة تامة لا تركيب فيه بأي وجه من الوجوه، فهي بساطة خاصة به وحده، فهو واحد لا شريك له وإن كان هناك موجود، لا جنس له ولا فضل ولا نوع ولا ند ولا مقوم له ولا عوارض، مبدأ كل فيض، هو الله سبحانه وتعالى، فهو إذن واحد منفرد برتبته وحده[9].
أما ممكن الوجود فهو واجب بالغير، فهو محتاج إلى علة متقدمة لكي تخرجه إلى الوجود، والعلة الموجدة للمكن إما أن تكون واجبة أو ممكنة، والممكنة تحتاج إلى علة أخرى حتى تنتهي السلسلة بعلة واجبة، والممكن إن افترضناه غير موجود لا يلزم من ذلك محالا، فلابد له من علة تخرجه إلى عالم الوجود، وإن وُجد فهو حينئذ أصبح واجبا بغيره، كالنور الملازم بوجوده إلى الشمس، والممكن هو الذي يثبت وجود الواجب، فإذا ما تحقق موجودا كان هذا التحقق دليلا على وجود واجب الوجود، وتأمل الانسان بهذا الإمكان الوجودي يؤدي بالضرورة إلى اثبات وجود الحق تعالى[10].
ونجد أن الفارابي يجنح في برهنته على وجود الله سبحانه إلى طريقتين، الأولى طريقة الحكماء الطبيعيين، والثانية طريقة الحكماء الإلهيين، ففي الطريقة الأولى يُنظر إلى الطبيعة للاهتداء بها، أي الاستدلال على وجود الخالق بالصعود من آثاره، أو السير من الخلق إلى الخالق، وهو ما يعني الصعود من الفعل إلى الفاعل، وهذا الدليل يعرف بدليل المحرك الأول عند أرسطو، ويذهب الفارابي إلى أن الباحث في هذا البرهان قد يخفق؛ لعدم معرفة تسلسل الأشياء بعضها عن البعض الآخر، وينتهي عقلنا إلى الاخفاق في هذا لعدم إحاطته بسائر الموجودات، وبالتالي فلن نصل إلى الله تعالى بواسطة هذا الدليل أو البرهان، أما الدليل الثاني وهو دليل الحكماء الإلهيين ففيه يتأمل الإنسان عالم الوجود المحض، ويرى الفارابي أن أفكار الجود والوجوب والإمكان معان مركزة في الذهن البشري يمكن ادراكها دون وساطة معان أخرى، ولو تأملنا في الوجود فهو إما واجب أو ممكن، وإمكانه يعني أن وجوده وعدمه يستويان، فلا ضرورة تلزم وجوده أو عدمه[11].
وما تحدثنا عنه في برهاني وجود الله تعالى يُظهر انقياد الفارابي لأرسطو واتباعه له، لكنه في نشأة العالم قد اتبع أفلاطون في نظرية الفيض، التي ترجع في جذورها الى أفلاطون، وهي تعني أن العالم نشأ عن طريق الله بطريقة التحليل في مبادئها العامة، وأفلاطون لم يكن يرى وجودا سوى الوجود العقلي، وهو يفسر صدور الأشياء عن الله بطريقة الفيض، ونظرية الفيض الأفلاطونية استلهمها المسلمون وأولهم الفارابي، لأنه وجد فيها عزاءه من تلك المشكلات المعقدة، التي كانت تدور حول كيفية صدور الموجودات عن المبدأ الأول أو العلة الأولى[12].
وكما رأينا فإن الفارابي يجمع بين رأي الفيلسوفين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، وهو بهذا يجعل المثل قائمة في العقل الإلهي، فالحق تعالى عند الفارابي عنده صورة ما يريد ايجاده، لأنه لا يوجد شيء جزافا عن غير قصد، فالأشياء بعد أن كانت في علم الله صورا عامة [...] تتحول الى هويات وتنضج حقائق فعلية، وهذا التحول يكون من جانب الله تعالى، وهكذا فتحقيق المثل على يد الفارابي عبارة عن منح الهوية للماهيات الممكنة القائمة على العقل الإلهي[13].
[1] ـ اعتاد الكثير من المستشرقين ودارسي الفكر والتراث الشرقي على عدم التفرقة بين اصطلاحَي (العربي) و (الإسلامي)، وعدّوا مضمونهما واحد.
[2] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة في الإسلام، تأليف: الأستاذ ت.ج.دي بور بجامعة أمستردام، ترجمة وتعليق: د. محمد عبد الهادي أبو ريده، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 1954م: 161 (الهامش).
[3] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة الإسلامية، تأليف المستشرق: هنري كوربان، ترجمة: نصير مروة وحسن قبيسي، عويدات للنشر والطباعة، لبنان ـ بيروت، ط2، 1998م: 242.
[4] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة العربية، د. جميل صليبا، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، لبنان، 1989م: 136 ـ 137.
[5] ـ ينظر: المصدر نفسه: 136 ـ 140.
[6] ـ ينظر: الفلسفة الاسلامية مدخل وقضايا، د. حامد طاهر، دار الثقافة العربية، القاهرة، 1991م: 154 ـ 155.
[7] ـ ينظر: المدينة الفاضلة، أبو نصر الفارابي، مختارات من كتاب الملة، موفم للنشر، ط2، 1990م: 3.
[8] ـ ينظر: من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الإسلامية، محمد عبد الرحمن مرحبا، ديوان المطبوعات للنشر، ط3، 1993م: 410.
[9] ـ ينظر: المدارس الفلسفية في الفكر الإسلامي (الكندي والفارابي)، المكتب الجامعي الحديث، مصر، (د. ط)، 2010م: 95.
[10] ـ ينظر: من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الإسلامية: 410.
[11] ـ ينظر: تاريخ الفكر الفلسفي من طاليس الى أفلاطون، محمد علي أبو ريان، الدار القومية للطباعة والنشر والتوزيع، الاسكندرية، 1956م: 336.
[12] ـ ينظر: الفلسفة والفلاسفة في المشرق الإسلامي، ابراهيم محمد تركي، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، ط1، 2007م: 135.
[13] ـ ينظر: من الفلسفة اليونانية الى الفلسفة الإسلامية: 413.