بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد انتقالة جوهرية في الفلسفة اليونانية من مرحلة البحث في مشكلة الكون وتفسير الوجود الى مرحلة البحث في مشكلة الإنسان ووضعه في هذا العالم، وكان هذا التحول على يد السوفسطائيين، وكانت آراء فلاسفة المرحلة الأولى كونية بدأت في القرن السادس قبل الميلاد مع كل من طاليس الملطي زعيم المدرسة الطبيعية وفيثاغورس اللذين عاشا في القرن السادس قبل الميلاد، في حين نجد أن آراء السفسطائيين تتمحور حول الإنسان وحده، وكان بروتاغوراس (487 - 410 ق.م) أقدم سوفسطائي عرفه التاريخ، وأشهر من نظّر لهذا الاتجاه الجديد، فهو بحق زعيم السفسطائيين ومُلهِم الشكّاكين واللاأدرية.
ويمكن أن نعد فلسفة السوفسطائيين حلقة اتصال مهمة من حلقات تاريخ الفلسفة اليونانية، فهم أول من أنزل الفلسفة من السماء الى الأرض، وهم سبقوا في ذلك سقراط (469 ـ 399 ق.م)، وما كانت فلسفتهم هذه إلا استجابة للوضع الجديد ممثلا بالاتجاهات السياسية والاجتماعية الجديدة التي طرأت على الشعب اليوناني، فهم أقرب ما يكونون الى فلسفة التنوير التي سادت فرنسا في القرن الثامن عشر، وهو ما يعني أن السوفسطائي شبيه بفولتير وروسو وديدرو وغيرهم ممن قادوا حركة التنوير عقب الثورة الصناعية التي قامت في أوربا[1].
كان بروتاغوراس بارعا في علوم كثيرة، فإضافة لبراعته في الفلسفة برع أيضا في التربية والاجتماع والفن وغير ذلك، وهذا ما جعل البعض يصفه بأنه شخص متعدد المواهب، وقد حمل لواء التعليم السماعي في القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان، ويعتبر رائد الفلسفة الإنسانية في قبال الفلسفة الطبيعية النظرية، وكان المدافع عن القوانين والشرائع الوضعية قبال قوانين الطبيعة، فلا غرو بعد كل ذلك أن يكون بروتاغوراس زعيم السوفسطائية بلا منازع ورائدها الأول[2].
ولبروتاغوراس أيضا اهتمامات في المجالات اللغوية، إذ ساهم بشكل فاعل في رسم بعض القواعد والأسس المتصلة بالبلاغة الإغريقية، وله محاولات ودراسات في جوانب نحوية تتعلّق بالتأنيث والتذكير وتفريقه بين زمان الأفعال وصيغها، وله الفضل بوضعه القواعد اللغوية وبيانه ضروب الجمل من حيث الاستفهام والأمر والخبر والدعاء، وبحثه عن أصل اللغة، فهو بحق النحوي الأول في اليونان، بيد أنه يؤخذ عليه محاولته اخضاع النحو للمنطق والعقل، وفضلا عن ذلك كانت له اهتمامات بالهندسة، وكان يراها رموزا أنموذجية غير حقيقية[3].
ولد زعيم السفسطة والشك في أبديرا واستقر في أثينا بعد تجوال في مدن اليونان، وكان هو القائل بأن: "الانسان هو معيار كل الأشياء، معيار ما هو موجود فيكون موجودا، ومعيار ما ليس بموجود فلا يكون موجودا"[4]. وفسّر أفلاطون تأكيد بروتاغوراس على أن الأشياء هي بالإضافة إلي كما تبدو لي، وهي بالإضافة إليك كما تبدو لك، عن طريق ضربه مثالا بالريح الواحدة التي تهب على رجلين، هي باردة بالإضافة الى الذي يشعر ببرودتها، فالأشياء هي بالإضافة إلى كل منا كما يشعر بها كل منا[5]. ويمكن لنا عدّه من خلال اعتماده على الانسان معيارا لكل الأشياء صاحب الملمح الوجودي الأول، بل هو أبو الفلسفة الوجودية التي راجت في أوربا مطلع القرن العشرين. كما يبدو أن الفيلسوف والراهب الآيرلندي المثالي باركلي (ت 1753) قد تأثر ببروتاغوراس واستلهم أفكاره بعد أكثر من ألفي عام! فجعل معيار وجود الشيء مرهون بإمكانية إدراكه! وما لا يدرك فهو عدم!
وملخص المبادئ التي تقوم عليها نظرية بروتاغوراس في المعرفة ثلاثة أمور: الأول: الإحساسات صادقة وهي معيار الحقيقة. الثاني: المعرفة نسبية. والأمر الثالث: أن الوجود متوقف على المدرك[6]. ونسب أفلاطون إليه القول بنسبية الحقيقة الموضوعية! ونظرا لتغير حالات الانسان المرتبطة بتغير احساساته، وهذا الشيء ينتهي الى الشك[7].
إن محور الفلسفة البروتاغوراسية والسفسطائية عامة يقوم على عبارة بروتاغوراس الشهيرة وهي: "الإنسان مقياس كل شيء"، وقد كان جميع الفلاسفة قبل السفسطائيين يفرقون بين الحس والعقل، كما يفرقون بين ما يُدرك بالحس وما يُدرك بالعقل، فالحقيقة كانت تُرى قبل السفسطائيين بأنها تُدرك بالعقل لا من خلال الحس، فالحس خدّاع يغش صاحبه، والعقل مشترك بين الجميع خلاف الحس المخصوص بصاحبه المنتمي إليه، ولا يقدر صاحب الحس أن ينقل احساسه الى غيره كما في أعمى لون معين لا يقدر نقل احساسه عنه الى آخر، على العكس من الفهم الذي يمكن نقله الى الآخرين كما في مثلثين يعرضان على أكثر من شخص، فيرى شخص أنهما متساويان ويراهما آخر مختلفين، هذا إن كان عن طريق الحس، أما إن أُقيم البرهان على أنهما متساويان الأضلاع قائما الزاوية فمما لا شك فيه عن طريق هذا البرهان سيتفق الجميع على تساويهما، فالعقل عام مشترك بين الجميع، لكن بعد أن أتى السوفسطائيون أنكروا ذلك، وجعلوا العقل حاله حال الحواس الأخرى، ولا يوجد عندهم فرقا بين الوجود الذهني والوجود الخارجي! فلا يوجد فرق بين ما أدركه من الشيء وبين الشيء نفسه في الخارج! والأشياء في الخارج لا توجد مستقلة عن الإدراك، أما الاختلاف في الرؤية بين الأفراد فهو حق بالنسبة لكل واحد منهم بحسب ما يراه، حتى ذهب بروتاغوراس أن لا وجود للصح والخطأ في الواقع أو غيره، وتبعه في ذلك السوفسطائيون الذين جاءوا من بعده ولا سيما في مجالي السياسة والأخلاق[8].
إن التعاليم التي تنفي الحقيقة ولا تفرق بين الصح والخطأ ولا تعترف بالمعيار الأخلاقي وما الى ذلك هي تعاليم هدّامة للمجتمع وأنظمته، وهذا ما جعل السفسطائيين مثارا لسخرية الفلاسفة الآخرين الذين أتوا بعدهم، لكن هذا لا يمنع الاعتراف بأنهم نشروا التعليم في بلدان اليونان، وأثاروا الأفكار والمناقشات وما الى ذلك، ممهدين الطريق لسقراط وأفلاطون، كما أنهم أسسوا علم البلاغة وأثروا في عقول الباحثين في العصور المختلفة[9].
وكان للفيلسوف بروتاغوراس إثارات عظيمة في المجال الديني المتبع لدى الإغريق، فما أورده من نقد للآلهة شكّل هزة عنيفة في الوجدان الشعبي، إذ تضمن ذلك الكتاب عباراته الصادمة للجمهور الأثيني، إذ قال: "أما بالنسبة للآلهة فإنني عاجز عن القول ما إذا كانت موجودة أم لا"!! وكان حينها قد استقر في أثينا، وبسبب هذا الكتاب لم يدم طويلا بها بعد أن اتهموه بالإلحاد والتحلل، فحرقوا كتابه وحكموا عليه بالإعدام، مما دعاه ذلك الى الهرب باتجاه جزيرة صقلية، لكنه غرق في البحر قبل أن يصل، وحدث ذلك في عام 410 قبل الميلاد[10].
واتهامه بالإلحاد استنادا الى هذه المقولة غير صحيح كما يذهب بعض الباحثين، فهو لا ينكر الآلهة وإنما يبحث في حقيقتها، فإدراك الآلهة عند بروتاغوراس أمر غير متيسر للبشر؛ فهم قاصرون عن ذلك، ويستطرد أحد الباحثين الى أن أفلاطون بمحاورته التي أسماها (بروتاغوراس) يذكر نصا على لسان بروتاغوراس نفسه يقول فيه: "من الصفات الشريرة الإلحاد والظلم فهما أمران يوصفان على وجه العموم بأنهما مضادات للفضيلة والسياسة"[11].
نعم يمكن القول أن بروتاغوراس كان (لا أدريا)، فهو لا يعلم إن كانت الآلهة موجودة أم لا، فالإلحاد شيء واللا أدرية شيء آخر، وهو رأي يتسق مع نظريته المعرفية؛ فالإنسان بحواسه هو المعيار في وجود الأشياء جميعا، ومسألة وجود الإله ينبغي لها أن تكون خاضعة للمعيار نفسه، لكن بما أن العقل لا يستطيع أن يصل الى رؤية قطعية حول مسألة الإله بسبب ضعفه وقصوره فقد اختار موقف اللا أدري[12].
إن أهم ما ترتب على فكر برتاغوراس ومن سار على هديه هو شيوع ظاهرة الشك لدى المجتمعات اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد، فالشك أزمة تبعث في العقول الحيرة والقلق المستدام ما دام للشك وجود عند الإنسان، أما الاطمئنان الظاهري الذي توهمه السفسطائيون بخيال خادع لم يجلب لهم الهدوء والسكينة والراحة، حتى بدأ الناس يتذمرون من السفسطة وشكوكها، وصاروا يبحثون عن ورد ينالون به الطمأنينة واليقين.
وقد رد أفلاطون وأرسطو على مذهب بروتاغوراس، وتساءلا عن اعتماده على الانسان دون غيره مقياسا لوجود الأشياء ولم يعتمد مثلا على القرد أو البقر أو أي حيوان آخر له إدراك؟! لكن ربما لم يكن بروتاغوراس كما ادعى أفلاطون، فقد يكون قد انتهى الى التوفيق بين التفسيرين قاصدا بعبارته أن ما لا يكون موضوعا لإدراكنا لا يكون موجودا، فهو يرى أن الحقيقة متغيرة ونسبية بالنسبة للأشخاص لا أنها غير موجودة بالأساس، أما مذهبه في انكار قانون عدم التناقض فرأى أن هناك على الدوام قضيتين متناقضتين حول الموضوع الواحد، وهي قضية لا تنطبق من الأساس على منهج المعرفة بل هي متعلقة بالخطابة وفن الإقناع، الذي اعتنى به بوتاغوراس ودرس فيه النحو وأصول اللغة[13].
ونستطيع القول أنه بالرغم من سلبية الشك والسفسطة إلا أنها أثارت مشكلات لم تمتد لها يد النقد سابقا بمثل ما امتدت يد الشكاك والسفسطائيين، وبالتالي عُد عصرهم عصر نهضة فكرية، ثار فيها الشعب بعد اجتهاد بروتاغوراس وأمثاله على العقائد والعادات البالية والخرافية، لكن ذلك لا يمنعنا من القول بخطأ بروتاغوراس ومن مثله في اعتمادهم على الحواس الشخصية فقط وتهميش الجانب العقلي في المعرفة وكشف الحقيقة الموضوعية، فهم كالبراغماتيين الذين لا يعترفون بالحقيقة في ذاتها ومستقلة عن البشر، فالحقيقة البراغماتية فيما كان نافعا في الحياة التي نعيشها، والفرق الوحيد بين بروتاغوراس والسفسطائيين الجدد (البراغماتيين) هو في معنى الإنسان، فهو عند بروتاغوراس الفرد المشخص: زيد، عمر، جاك، وليم... الخ، أما البراغماتيون فيريدون بالإنسان الأمة أو الإنسانية بشكل عام[14].
ويمكن نقض مذهب الشك بالتفاتة منطقية بسيطة، وهي أن ادعاء الشكوكيين في عدم امكانية الوصول الى المعرفة يعني أن ليس هنالك معرفة، بيد أن ما قالوه في هذا الخصوص ادعاء معرفي صارخ! فكيف صار لهم ههنا معرفة؟ وكيف استحصلوا عليها؟ أ ليس ما ذكروه أولى بأن يكون خاضعا لمذهبهم الشكوكي؟! وبالتالي يكون هذا المذهب قد نقض نفسه بنفسه! وكما قال أحد الباحثين في الفلسفة: "كيف جاز في عرف المنطق أن يصلح هذا العقل للتسليم بدعوة الشك في أن الانسان لا يعلم ولا يستطيع أن يعلم شيئا! إنهم يقولون إن العقل لا يقوى على التدليل على صحة قضية ما، فكيف أمكن عندهم أن يبرهن العقل على صحة الشك وصدق اتجاهه؟ إن الشك كمذهب من مذاهب المعرفة متهافت متناقض يهدم نفسه بنفسه"[15]. فحكمهم بعدم قدرة العقل على اصدار حكم من الأحكام هو حكم صادر من العقل بداهة! وهذا نقض وهدم لدعواهم! إضافة الى أن حكمهم هذا ما هو إلا أحد تلك الأحكام التي ينبغي ـ حسب مذهبهم ـ أن يكون خاضعا للشك نفسه الذي تبنوه[16].
وما ادعاه بروتاغوراس وأضرابه بأخطاء الحواس لا يقدم مبررا للشك؛ فالخطأ إنما ينشأ من التخييلات والتقييمات التي تنبني على الظن غالبا، فما تراه من بقع حمراء تلطخت بقميص أبيض وتحكم بحاسة النظر أنها دم، تستطيع من طريق حاسة الشم أن تتبينه إن كان عصير فراولة أو صبغ أحمر سُكب على ذلك الثوب! فالحواس تصحح بعضها بعضا وتتعاضد لكشف الواقع والحقيقة، أضف الى ذلك فإن حكم حاسة النظر إنما أخطأ لاعتماده على الظن المبتني على بعض الاعتبارات والقرائن: كالحمرة للدم ووجود تلك البقع على ثوب ملاصق لجسد يسيل منه الدم متى ما جُرح! وبالتالي لم يكن الحكم فضفاضا الى حد الإطلاق، فهل كان من الممكن أن يرى الفرد صاحب النظر الطبيعي ذلك اللون الأحمر لونا أسود أو أبيض أو غير ذلك؟! أم أن الجميع متفقون على حمرة العصير الفراولي والصبغ الأحمر والدم، وهذا دليل ساطع على أن الحواس متفقة في أغلب أحكامها، أما ما يطرأ من تغييرات واختلافات فهي بسبب بعض الإيهامات والمشتركات والتداخل ببعض الصفات التي توصل الى الظنون والشكوك، وهو خطأ لا يعود الى الحواس ولا ينبغي أن تتحمله هي، فالخلل إنما ينشأ من خارج حدود سلطتها.
[1] ـ ينظر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها، د. أميرة حلمي مطر: 120.
[2] ـ ينظر: نشأة الفكر الفلسفي عند اليونان، علي سامي النشار، أحمد صبحي: 221.
[3] ـ ينظر: ملامح الفكر الفلسفي عند اليونان، د. حربي عباس عطيتو: 178.
[4] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية، وولتر ستيس، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد: 101.
[5] ـ ينظر: محاورة تياتيتوس، أفلاطون، ترجمة: د. أميرة حلمي مطر: 46 ـ 47.
[6] ـ ينظر: فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط، د. أحمد فؤاد الأهواني: 265.
[7] ـ ينظر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها: 121.
[8] ـ ينظر: قصة الفلسفة اليونانية، زكي نجيب محمود، أحمد أمين: 68 ـ 69.
[9] ـ ينظر: المصدر نفسه: 70.
[10] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة اليونانية: 101.
[11] ـ ينظر: ملامح الفكر الفلسفي عند اليونان: 181 ـ 182.
[12] ـ ينظر: جدلية العلاقة بين الدين والفلسفة عند فلاسفة اليونان، د. شرف الدين عبد الحميد: 266 ـ 267.
[13] ـ ينظر: الفلسفة اليونانية تاريخها ومشكلاتها: 121 ـ 122.
[14] ـ ينظر: قصة الفلسفة اليونانية: 70 ـ 71.
[15] ـ أسس الفلسفة، د. توفيق الطويل: 127.
[16] ـ ينظر: المدخل الى الفلسفة، أزفلد كولبة، ترجمة: أبو العلاء عفيفي: 285 ـ 286.