في أقصى الغرب من اقليم ما كان يعرف سابقا (بروسيا) وتحديدا في مدينة كولونيا الألمانية، ولد اكهارت عام 1260 ميلادي، بادئا حياته الدينية واعظا ومعلما ضمن التيار الدومنيكاني، الذي انتشر في أوربا بداية القرن الثالث عشر، وما إن اشتد عوده وقوى ساعده بدت أفكاره الصوفية والفلسفية تدب على صعيد الميدانين الديني والفلسفي، وكان لجامعة باريس آنذاك التي أوفد إليها دور كبير في شيوع أفكاره وآرائه، إضافة الى عمله التعليمي اللاهوتي في المدن الألمانية والفرنسية، حتى عُدّ لاحقا من أعظم المفكرين الذين لهم بصمة كبيرة على الأجيال التي أتت لاحقا.
مثلما هو معلوم فإن فلاسفة أوربا في الحقب الزمنية الأخيرة من العصر الوسيط توزعوا على ثلاث تيارات رئيسة: تيار حاول إتمام ما طرحه صاحب النزعة العلمية روجر بيكون (ت1292م) وكان مقره أكسفورد، وتيار تأثر بالفلسفة الرشدية اللاتينية التي استقرت لدى سيجر دي برابان (ت1282م)، ووجهت لهذا التيار بسبب جرأته وصراحته تهمة الابتداع من قبل الكنيسة التي عاملته بقسوة كبيرة، أما التيار الثالث فهو التيار الذي يئس من قضية التوفيق بين العلم والفلسفة من جانب والدين والنقل من جانب آخر، وينقسم أتباع هذا التيار الى مجموعتين: مجموعة لا تكترث بالدين من حيث صلته بالعقل، واهتمت بالجانب العقلي العلمي الخالص عبر انصرافها الى العلوم العملية ذات الفائدة الواقعية، وهؤلاء اعتنوا بالعلم عناية خالصة، حتى وصلوا بذلك الى نتائج باهرة توجت بمكتشفات واختراعات كثيرة انتقلت بالبشرية الى العصر الحديث، ومثّل أوكام هذه المجموعة خير تمثيل، أما المجموعة الثانية التي مثّلها إكهارت فقد اتجهت الى التصوف كطريق الى الحقائق الدينية.
وبناء على ما سبق فإن اكهارت اتفق مع أوكام (1300 ـ 1349م) في الدعوة الى الفصل بين الدين والفلسفة، لكنه يختلف عنه في الهدف والغاية، فإذا كان أوكام ناظرا الى العلم والفكر وضرورة تحريرهما من الدين فإن نظرة اكهارت كانت صوفيه، يبتغي من طريق الحفاظ على الدين من سهام النقد والشبهات، الناتجة عن التضارب والتصادم الفكري الظاهري بين الدين من جانب والعقل والعلم من جانب آخر. وفضلا عن ذلك فقد اضطلع اكهارت حاله حال المتصوفة آنذاك بمواجهة التراتبية التي نتجت عن التصور العلمي التي أخذ بالتطور والشيوع ابان عصر النهضة، حيث بات يُنظر الى الانسان على أنه كائن عضوي مادي كبقية موجودات الطبيعة المادية، خاضع لقوانين المادة ورازح تحت صرامتها! فواجه المتصوفة المسيحيون ذلك التيار السائد، ونظروا بوعي ديني الى العناية الربانية وعلاقتها بالإنسان، وفهموها باعتبارها هبة إلهية ونعمة عظيمة أكثر من كونها مجرد مسرحية بايولوجية جامدة، مملة ومتعِبة في الوقت نفسه للعقل المأسور بجدليات الطبيعة[1].
كانت مدينة كولونيا الألمانية معقلا مهما للرهبان الدومينيكان، وحصنا قويا لتيار الاسمية ذي الطابع الأرسطي البحت الذي يبني إيمانه على العقل، والمذهب الاسمي أقام دعائمه القديس ألبرت الكبير، والصوفية كما هو معلوم للجميع بعيدة جدا عن توجهات هذا التيار أو المدرسة، فكانت المشائية هي السائدة في المدينة، وزاد من اعلان شأن الاسمية أن تسنم توما الاكويني زعامتها، وهو أبرز من نظّر للمذهب الاسمي على الساحة المسيحية، وفي أجواء كهذه صدحت حنجرة اكهارت بآرائه الصوفية المتعارضة مع ما هو شائع من أفكار في بيئته، وقد ((نما في ألمانيا تصوف أكثر أصالة وجرأة وهو تصوف إيكهارت وأتباعه، وهو الذي لم يتحرر من قيود الفلسفة المدرسية فحسب، بل من قيود الارثوذكسية الصوفية كذلك))[2].
ويمثّل التصوّف ظاهرة روحية عالمية تمظهرت منذ القدم، وهو لا يختص بدين محدد دون آخر، بغض النظر عن كون ذلك الدين سماويا بحسب المتعارف أم أرضيا مبتدعا، فهو إنما يعبّر عن الجنبة الروحية للإنسان ضمن إطار الدين الذي يتبناه ويتعبد به.
وقد عُرف التصوف لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين، فضلا عن الهندوس والبوذيين وكثير من قدماء الشعوب الشرقية، ومثّل اكهارت انعطافة تاريخية للتصوف في نسخته المسيحية، للأثر العميق الذي تركه على المنظومة الصوفية الأوربية التي ينتمي إليها، وأثره في الأجيال والمدارس الصوفية التي جاءت بعده.
ومما ينبغي الالتفات إليه ان التصوف المسيحي كان قد استفاد من التجربة اليونانية ولاسيما الافلاطونية والافلاطونية الجديدة، لكنه في ذات الوقت يمتلك آراء لا ترى الدين مجرد موضوع يحتمل أن نسقط عليه مخرجات الفكر اليوناني، لجعلها متوائمة مع طروحات الدين المسيحي ومتفاعلة معه ضمن علاقة ديالكتيكية متكلّفة الى حدّ بعيد، نعم كانت هنالك استفادة للتصوف المسيحي من الفكر اليوناني، عبّرت عن الحالة المتجذرة بين الأديان والاتجاهات الفلسفية والأخلاقية المنتشرة حول العالم.
والتصوف المسيحي في أساسه كان ردة فعل على تلك الصراعات الفكرية في مجال الدين التي نشبت بعد القرن الأول الميلادي، حيث رأى عدد من رجال الدين أن تلك النزاعات والصراعات والانشقاقات قد ابتعدت عن غايات الدين النبيلة وجوهره السامي، ونشر القيم الأخلاقية والسلوك الحسن والحب والوئام والذوبان في عبودية المطلق خالق العالمين، فأخذوا يعتزلون المناكفات والابتعاد عن الصراعات والنزاعات والمنافسات، فلجأوا الى الأديرة والكنائس والبراري والجبال ملاذا روحيا ومكانا يتجنبون فيه منغصات التعبد الإلهي والتدين السامي السليم.
إن المتصوفة في المسيحية حاولوا الابتعاد عن المعطيات التي نتجت عن التصورات والرؤى الأولى عن الإله، التي تنظر إليه من جهة أقانيمه وليس من حيث هو المبدأ الوجودي الأول، فنظرتهم الى الله تمثّل تطورا ايجابيا في مجال التوحيد الإلهي، فالله جل وعلا بالنسبة إليهم موجود خارج الثالوث الديني وفق العقيدة المسيحية المتعارفة لدى أغلب أتباعها، فالخالق الواحد نور يفيض، وعلى الصوفي أن يتصل بذلك النور مجردا عن جميع الأشياء المحايثة له[3]، إذ يرى اكهارت الألوهية ((بأنها الواحد الذي لا يقال عنه شيء، القفر، الهاوية المتجانسة، السكوت الثابت، أو بأنها الله بصرف النظر عن علاقاته، وهو يلح [أي اكهارت] في وحدة الله، أكثر مما يلح في تمايز الأقانيم))[4]، فهو ههنا يتمرّد على السائد من المعرفة الدينية القائمة على نظرية التثليث، وهو يرفضها بوضوح تام ((ولا يقبل نظرية المشاركة؛ لأنها تفترض وجود موجودات متمايزة مع الموجود الأوحد))[5].
ويعد ايكهارت من أوائل المفكرين الذين تمردوا على الأعراف المتبعة في التعليم وقت ذاك، فهو ((لم يكن فيلسوفا نسقيا أو مذهبيا، ولم يفكر أبدا تفكيرا نسقيا من خلال الأفكار والجمل التي وجدها عند مؤلفين مختلفين))[6]، يضاف الى ذلك أن اكهارت اختار تقديم نتاجاته باللغة الألمانية، منحرفا بذلك عن اللغة اللاتينية التي كانت تمثل لغة العلم والمعرفة والتعليم في العصور الوسطى، هذا وغيره جعل منه محط سهام المتزمتين الدينيين، فكان له نصيب وافر من العنت والظلم، حتى أن مؤلفاته الدينية رُفضت وحوربت حربا هوجاء من قبل الكنيسة، التي كانت تحكم على كل من يرى رأيا مغايرا لتوجهاتها على أنه فتنة وهرطقة يجب القضاء عليها، وكان القضاة يسيرون وفاقا للضوابط والقوانين التي شُرّعت من قبل الكنيسة ورجالها، حيث ساد ما بات يعرف بمحاكم التفتيش في عهد غريغوري التاسع بابا الفاتيكان، وكانت الكنيسة قبل ذلك قد استلهمت قوتها في بداية القرن الثالث عشر من الامتياز الكبير الذي منحه لها البابا إنوسنت الثالث (ت1216)، ((فقد وضع هذا البابا قانونا للكنيسة يزيد من سلطة رجالها))[7]، فمثل هذا القانون وعدّ ((أسود كتاب أخرجته ـ الكنيسة ـ للجحيم))[8]، وقد صادق معظم رجال الكنيسة على هذا القانون وعدّوه ميثاقا مقدسا، طالما يزيد من قوتهم ويحفظ لهم امتيازاتهم[9].
ويرى اكهارت أن الله والوجود شيء واحد، ويمكن توجيه ذلك الرأي اعتمادا على التأويل، ويبرز هذا الشيء حينما يأتي على مسألة الوجود والفهم، أو من طريق تعقّل الوجود، فيرى أن الكتاب المقدس يبين في بدايته أنه (في البدء كانت الكلمة)، والكلمة هنا هي الله لأنه بداية كل شيء، وبما أن الله خلق كل شيء من هذه الكلمة، فإنه بناء على ذلك هو كل شيء في الوجود[10].
واكهارت بهذا التصور لا يخالف المدرسة الاسمية فحسب، بل يخالف الافلاطونية الجديدة كذلك، التي نظرت الى الله على أنه الموجود الأعلى وفوق الوجود، في حين نجد اكهارت يستدعي ذلك الموجود ليكون حاضرا في كل شيء من الوجود، وقد ذكر في رسالته الأخيرة أن ((الله ليس التعقل، بل إن الله هو الوجود))[11].
وقد مثل اكهارت العلاقة الصوفية تمثيلا مميزا في العلاقة بين الله والانسان، فلم يعد الانسان مشدودا الى تلك العبارات الكهنوتية التي تجبره على الاذعان لها، فهي لديه لا تمس جوهر الحقيقة، بل هي مجرد مقولات أمست حقائق متداولة في الميادين الكنسية لا أكثر، وبالتالي فاكهارت يدعو بالعودة الى جوهر المسيحية، المتمثل بالعلاقة البسيطة بين الانسان وربه، والعودة الى الجوهر الروحي الموجود في الانسان الساعي نحو الاتصال بالمبدأ الوجودي الأول (الله)، إذ أمسى التصوف مع اكهارت ((حنينا حارا للتحرر نهائيا من عوائق النفس حتى لا تعرف شيئا ولا تفكر في شيء خلا الله))[12]، وتحقيق تلك الغاية إنما يكون عبر ((الزهد الذي يمحو الكثرة الناشئة في النفس من تعلقها بالأشياء))[13]. وقد لقب اكهارت ((بمنشئ النثر الألماني وبأبي الفلسفة الألمانية))[14].
[1] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة، فريدريك كوبلستون، ترجمة: امام عبد الفتاح ومحمود أحمد سيد أحمد، تقديم: امام عبد الفتاح امام، المركز القومي للنشر والدراسة والترجمة، القاهرة، ط1، 2013م: 3/ 253.
[2] ـ المجمل في تاريخ علم الأخلاق، سدجويك، ترجمة وتقديم وتعليق: توفيق الطويل وعبد الحميد حمدي، دار الثقافة للنشر، الاسكندرية، ط1، 1949م: 1/ 258.
[3] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة، أميل برهييه، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1983م: 3/ 138.
[4] ـ تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط، يوسف كرم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، مصر، 2012م: 180.
[5] ـ المصدر نفسه: 180.
[6] ـ تاريخ الفلسفة لكوبلستون: 3/ 268.
[7] ـ تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند راسل، ترجمة: زكي نجيب محمود، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 2012م: 2/ 217.
[8] ـ المصدر نفسه: 217.
[9] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة لبرهييه: 3/95.
[10] ـ ينظر: تاريخ الفلسفة لكوبلستون: 3/ 255.
[11] ـ المصدر نفسه: 3/ 255.
[12] ـ المجمل في تاريخ الأخلاق: 1/ 258.
[13] ـ تاريخ الفلسفة في العصر الوسيط: 180.
[14] ـ المصدر نفسه: 179.