النظام السابق واستخدام الموارد ضد الإمام الحسين (عليه السلام)
اجتاحت مدينة الموصل موجة من الرعب والدمار في (10/6/ 2014م)، حين سيطر تنظيم داعش الإرهابيّ على المدينة، معلنًا بداية فصل جديد من الظلم والوحشية في تاريخ العراق، وفي خضم هذه الأحداث المأساوية، وقعت مجزرة (سجن بادوش)، التي تجسدت فيها أبشع صور العنف والتطرّف، ولا شكّ أنّ الخروج من السجن يُعد سعيًا في البحث عن الحرية التي كانت تراود مخيلة كثير من النزلاء، إلّا أنّ شبح الرعب وما رافقه من قتل طال المئات منهم، جعلها جريمة واسعة النطاق بقيت عالقة في ذهن من نجا منها.
وطالت هذه المجزرة مئات السجناء العُزّل الذي كان معظمهم من أبناء الجنوب ولاسيّما الشيعة، وذلك في عملية قتل جماعي وبطرقٍ وحشية، كشفت عن الوجه الحقيقيّ لتنظيم داعش الإرهابيّ وأسلوبه البربريّ، بهدف نشر الرعب وإثارة النعرات الطائفية بين مكونات الشعب.
وتسلّط هذه الحادثة الضوء على الفضائع التي عانى منها السجناء والمدنيون الأبرياء في ظل حكم هذا التنظيم المتطرّف، وتبرز الحاجة الملحّة للتوثيق والتذكير لمثل هذه الجرائم لضمانِ عدم تكرارها، وإنّ أهم من قام بتوثيق هذه المجزرة الأليمة في مدينة الموصل هي (العتبة العباسية المقدّسة) بوساطة قسم (مؤسسة الوافي للتوثيق والدراسات)، وذلك عبر إصدار موسوعة ( فتوى الدفاع الكفائي) في عام 2020م، إذ تناولت هذه الموسوعة الأيام الأولى لصدور الفتوى المباركة وأحداثها من عام (2014 م) حتى آخر يوم من التحرير وما بعده، وتألفت هذه الموسوعة من (80) مجلداً قامت بتوثيق جميع الأحداث من طريق باحثين ومراسلين، ووفود زارت المناطق التي تمّ تحريرها.
السياق التاريخيّ والموقع الجغرافيّ
بدأ بناء السجن سنة 1979 وانتهى سنة 1986 م، على مساحة تقدر بأكثر من كيلو مترين تقريبا.
أما تسمية السجن، فكانت تسميته الرسمية سنة 1982 م دار إصلاح الكبار في الموصل وبعد سنة 2003 م تغير الاسم إلى المجمع الإقليمي الإصلاحي في الموصل ثم تغيرت إلى سجن الموصل المركزي عام 2011 م وأخيراً استقر الاسم على سجن بادوش المركزي سنة 2012 م.
يقع على بُعد (25) كم شمال غرب مدينة الموصل، وهو أحد أكبر سجون العراق خلال العقد الذي سبق المجزرة، وكان السجن يحتضن مئات السجناء، منهم من كانوا معتقلين لأسباب جنائية أو غيرها على حدّ سواء.
وخلال السنوات التي سبقت المذبحة شهد العراق اضطرابات سياسية وأمنية كبيرة تزامنت مع ظهور تنظيم داعش الإرهابي وانتشاره في المنطقة، إذ إنّ الفراغ الأمني والانقسامات الطائفية في البلاد من الأسباب التي ساهمت في تمكين هذا التنظيم من التوسّع والانتشار إبان مدّة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق عام (2003م).
في صباح يوم (10/6/ 2014م) وبعد سيطرة تنظيم داعش على محافظة الموصل، قام مقاتلوا التنظيم بمهاجمة (سجن بادوش)، إذ اقتحمت المجاميع الإرهابية (داعش) السجن بعد اشتباكات قصيرة مع الحراس-وفقاً لشهادات الناجين-فقامت الجماعات الإرهابية بنقل السجناء إلى منطقة صحراوية قريبة من السجن، بعد فصل سجناء السنة عن سجناء الشيعة، وعمدوا إلى إطلاق النار على المجموعة الأخيرة من مسافة قريبة من الوادي.
يقول أحد الناجين من (سجن بادوش) المدعو (محمد علي محمد برهان البديري) من أهالي الديوانية: إنّ عملية تصفية نزلاء (سجن بادوش) في الموصل لا تقل بشاعة وفظاعة عن مجزرة (قاعدة سبايكر) في تكريت إلّا أنّ الإعلام لم يسلّط الضوء عن إجرام وبشاعة ما حصل في بادوش، واهتم بمجزرة قاعدة سبايكر الأليمة.
وكثير ما نبّه البديري لجان حقوق الإنسان التي كانت تزور السجن بضرورة إخلائه من المعتقلين بسبب تعرّضه لقذائف الهاون بشكلٍ مستمر، والذي كان على مرمى من استهداف الإرهابيين، وأضاف البديري قائلاً: كانت مطالبنا بضرورة نقل السجناء إلى سجونٍ في مناطق الجنوب إلّا أنّ النداءات والمطالبات لم تجد استجابة من قبل لجان حقوق الإنسان أو لجان وزارة العدل.
وتعدّ شهادة النزيل (محمد البديري) من الشهادات القليلة التي كشفت عن معالم جريمة (سجن بادوش) والتي راح ضحيتها (503) نزيلاً كمجموعة أولى تمّت إبادتها على أساس طائفي، ويحدثنا النزيل محمد -في لقاءٍ له داخل سجن تسفيرات الديوانية-عن عملية اقتحام السجن فجر يوم (10 /6) من قبل الدواعش بعد أن أخلى الحراس الأمنيون السجن ليلاً تاركين السجناء في زنزاناتهم ومصيرهم المجهول المحتوم وسط غزو تنظيم داعش للموصل.
وأضاف البديري قائلاً: (بعد دخول عناصر داعش إلى السجن تمّ اقتيادنا في (7) شاحنات كانت متوقفة عند باب السجن وانطلقت لمسافة قدرها (4) كم تقريبًا إلى منطقة ترابية مطلّة على مبزل جافّ من الماء مملوء بالقصب، عندها – قال البديري - تم فصلنا على أساس طائفي (السني إلى جانب، والشيعي إلى جانبٍ آخر) عند ذلك أقدّم مسؤولهم الذي يُطلق عليه (الحجي) بحيلةٍ قائلا: إنّ النزلاء السنة سيتم إعطائهم السلاح للمقاتلة في بغداد، أما الشيعة فسيتم إركابهم عجلات لإرجاعهم إلى أهاليهم، عندها أركبوا من تمّ فصلهم على أنهم من السنة بالعجلات التي جاءت بنا وبقينا نحن الشيعة وعددنا (503) إذ تغير حال هؤلاء المسلحين وبدؤوا بالسبّ والشتم والترهيب والتعامل السيئ باعتبارنا (روافض) وأخذوا منا جميع المقتنيات الشخصية من موبايل ومبالغ مالية وغيرها وأمرونا بالتوجه إلى ناحية البزل على أن تكون وجوهنا إلى البزل وظهورنا عليهم).
صورة مفتي داعش في الموصل
وتابع البديري والنزلاء أوامر (الحجي) بالعدّ العسكريّ الذاتيّ مرة أخرى بأن يقوم كل سجين بعَدّ تسلسله من رقم واحد في أقصى اليمين إلى أن إنتهى العد بـ (503) في أقصى اليسار، (كان تسلسلي هو (463) في المجموعة، وعند انتهاء العد جرت بيني وبين أحدهم محاورة، إذ إنّي رفعت المصحف الذي كان بيدي – كان بحوزتي في السجن – في إشارة للحديث فقال أحدهم: ماذا تريد تكلم ولا تنظر إلى الخلف، فقلت له: إن الشمس حارقة والجو حار عليكم وعلينا ولا نريد منكم سوى شربة ماء قبل ذبحنا، لأني رأيت من بين المسلحين أشخاصًا يحملون السيوف فتوقعت الذبح، فقال: اسكت رافضي يا كلب، فقلت له: إن الكبش يسقى ماء والكلب يسقى، فرد: إن الكلب أشرف منكم يا روافض).
ويكمل (محمد البديري) حديثه: (عند ذلك أمر (الحجي) بان يجهز كل شخص يحمل رشاشة على خمسين من النزلاء ، وبعد كلمة (تكبير) بدأ إطلاق النار من خلفنا في الرأس والظهر وهم على مسافة (3) أمتار منا تقريبًا لنتساقط الواحد تلو الآخر في المبزل الذي هو على عمق (3) أمتار، وقد سقطت في البزل ولا أعرف كيف! إذ إني كنت مشغولاً بقراءة سورة (يس) التي أحفظها عن ظهر قلب ولم يخطر ببالي أي شيء لا أطفالي ولا أهلي إلا ذكر الله وقراءة القران الكريم.
وتحدث أحد الناجين من المجزرة قائلاً: (في اليوم السابق على الهجوم لم يقدّم حراس السجن في بادوش للنزلاء طعاماً يُذكر، ثم فروا في منتصف الليل).
وقال ناجٍ آخر من المجزرة، وهو يروي كيف تمّ اصطفاف السجناء وإطلاق النار عليهم بدم بارد: (كنت واقفًا بين السجناء، ورأيت الموت بعيني، سقطت أرضًا بين الجثث وتمكنت من النجاة بأعجوبة، على الرغم من إصابتي بطلقة في ذراعي).
وتحدث ناجٍ أخر رفض الكشف عن هويته لأسباب أمنية قائلاً: (كان الأمر كابوسًا حقيقيًا، لم يكن لدينا أي أمل في النجاة، كانوا يقتلون كل من يقف في طريقهم دون رحمة).
وآخر قال: (احتكت رصاصة في أعلى الرأس وأصابتني رصاصة أخرى في ذراعي وسقطت معتقدًا أنني فارقت الحياة وفقدت الوعي أثر ذلك لمدّة خمس دقائق وحين أفقت وجدت رجلاً مسنًا يرقد فوقي كان قد أصيب بطلقة اخترقت رأسه، وكنت قبل أن يبدأوا باطلاق النار علينا قمت بتقبيل وتوديع الرجال إلى يميني وشمالي لتبرئة ذممنا لمعرفتنا لأننا سنموت، وأخرجت صورة ابنتي وقبلتها وكنت أدعو الله أن يحفظني من أجلها).
وقال شاهد آخر عن الحادثة: (كانوا يصيحون: هذه عدالتنا .. وهذا حي أطلق عليه النار ثانية! فأصابتني رصاصة ثمّ سمعت أحدهم يقول دعونا نرحل فقد نفد رصاصنا).
وقد سقط معظم المصابين في الوادي كما تحدث الشاهد أنّ المسلحين أشعلوا النيران في المنطقة المحيطة بالوادي ثمّ امتدت النيران إلى الجثث.
وتؤكد المصادر أنّ عدد القتلى تجاوز (670) سجينًا غالبيتهم من الطائفة الشيعية والأيزيدية.
وفي أعقاب المذبحة، قامت منظمات حقوق الإنسان الدولية والمحلية بتوثيق الجرائم عن طريق جمع الشهادات والصور والأدلة، وأصدرت لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في الجرائم المرتكبة في العراق تقريرًا يؤكد وحشية الجريمة ويوصي بمحاسبة الجناة.
كما وثقت منظمة (هيومن رايتس ووتش) والعديد من المنظمات غير الحكومية الأخرى تفاصيل هذه الجريمة الشنيعة في تقرير جديد أورده (موقع إيلاف) وتابعه (موقع الاتجاه) أنه بعد استيلاء (داعش) على (سجن بادوش) قرب الموصل قام إرهابيو التنظيم بفصل النزلاء السنة عن الشيعة، ثمّ أطلقوا النار على رجال الشيعة من بنادق هجومية وأسلحة آلية، بحسب ما أكّد (15) سجينًا شيعيًا ممن نجوا من المذبحة موضّحين أنّ المتشدّدين قاموا كذلك بقتل عدد من النزلاء الشيعة والكورد والأيزيديين.
وقالت (ليتا تايلر) الباحثة في قسم مكافحة الإرهاب، في المنظمة: (إن التفاصيل المروعة للمذبحة الجماعية لنزلاء السجن بيد تنظيم داعش، تجعل من إنكار عربدة تلك الجماعة المتطرفة أمرًا مستحيلاً).
وأضافت: (ينبغي أن يدين الناس في أنحاء العالم من أي عرق أو معتقد هذه الجرائم المروعة وأن يمارسوا الضغط على الحكومة العراقية، والمجتمع الدولي، لتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة) وشددت على أن (عمليات الإعدام الميداني الجماعية هذه ترقى إلى مصاف جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية).
وشدد خبراء حقوق الإنسان على أهمية تعزيز العدالة الانتقالية في العراق، إذ يجب أن تتجاوز هذه العدالة مجرد محاكمة الجناة لتشمل أيضًا جبر الضرر وتعويض الضحايا بشكل مناسب، ويوصي الخبراء كذلك بأهمية تعزيز التعليم والتوعية بأهمية التعايش السلمي ونبذ الطائفية.
وتركت المذبحة أثرًا عميقًا على المجتمع العراقي، ولاسيما في مدينة الموصل والمناطق المحيطة بها.
أما الآثار النفسية والجسدية على الناجين كانت هائلة، إذ يعاني كثير منهم من اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب، وأدى هذا الحدث إلى زيادة التوترات الطائفية وتعميق الانقسامات في مكونات المجتمع العراقي.
وبعد المذبحة سارعت منظمات الإغاثة المحلية لتقديم الدعم النفسي والمادي للناجين وأسر الضحايا، وتمّ إنشاء مراكز علاجية نفسية لمساعدة الناجين للتعافي من الصدمات النفسية، فضلاً عن ذلك قامت بعض المنظمات بإنشاء حملات لجمع التبرعات وتقديم الدعم المالي للأسر المتضرّرة.
يجب على المجتمع الدولي والحكومة العراقية مواصلة العمل لتحقيق العدالة وتقديم الجناة إلى العدالة. وكذلك يجب تعزيز التوعية بأهمية الوحدة الوطنية والتسامح لمنع تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل.
إنّ مذبحة (سجن بادوش) تظل واحدة من أفظع الجرائم التي ارتُكبت في العراق في العصر الحديث. إنّ تذكُّر هذه الجريمة وتوثيقها ومحاسبة الجناة ليس فقط من أجل العدالة للضحايا، بل لضمان مستقبل أفضل وأكثر أماناً للعراق وشعبه أيضًا.
المجتمع الدولي والحكومة العراقية أمام تحديات كبيرة، ولكن عبر التعاون والعمل الجاد، يمكن تحقيق العدالة والمصالحة وضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل.
الملاحقات القانونية
تحت ضغوط دولية ومحلية، قامت الحكومة العراقية بفتح تحقيق شامل في المذبحة، وتمّ تحديد بعض الجناة، إذ تمّ القبض على بعضهم، ومع ذلك ما تزال العدالة الكاملة بعيدة المنال بسبب تعقيدات الوضع الأمني والسياسي في البلاد، فالكثير من الأهالي والناجين ينتظرون العدالة والإنصاف لذويهم، وقد تحقق ذلك عام 2017 إذ تمكّنت القوات العراقية من القبض على عدد من متورطي هذه المجزرة، وتمّ تقديمهم للمحاكمة.